ثمة خطر محدق بمنطقة الشرق الأوسط،لا سيّما المشرق العربيّ،لا يشير إليه كثيرون،وإن كان بعضهم متنبّهاً الى نتائجه المقلقة حقّاً.إنه، تحديداً، تراجع "الاعتدال العربيّ" ودفاعيّته في المعركة الإيديولوجيّة الدائرة اليوم والتي يمتدّ نطاقها من إيران الى غزّة.
ذاك ان معسكر الممانعة،حسب ما يسمّي نفسه، يطلق من الصراخ الدعويّ ما لا يحول تهافته دون استقباله الواسع من جمهرة عريضة عابرة للحدود، محبطة اقتصاديّاً واجتماعيّاً، وضئيلة التعلّم، تعجّ بمثلها ضواحي المدن القلقة والمشوّشة. والى ذلك من أسباب اجتماعيّة وتعليميّة، يستفيد المعسكر المذكور من عناصر عدّة ومتفاوتة ربّما كان أهمّها:
أوّلاً، تواصُل الصراخ الحاليّ مع تاريخ الدعوات الراديكاليّة الهائجة مما عرفته المنطقة، ومع ما أسّسته، بالتالي،من"أفكار" و"قناعات" جماهيريّة باتت ترقى الى سويّة البداهات البسيطة التي لا تقبل النقاش، كي لا نقول الشكّ أو الاعتراض.
ثانياً، أن أزمة الشرق الأوسط لم تعثر على حلّها بعد، وهو ما يستمرّ سبباً وذريعة لكلام ثورويّ يستند الى مقولتي "الحقّ" و"العدل"، وصولاً بها الى التبشير بالجنون المحض أو ما يقاربه.
ثالثاً، أن العنف الخارق الذي يشهده العراق منذ2003، في ظلّ ضعف ثقافة مسؤولة ونقديّة حيال الذات، قابل لأن تؤوّله"ثقافة الممانعة" كمجرّد مؤامرة أخرى تنفّذها الولايات المتّحدة وحلفاؤها على العرب والمسلمين.
رابعاً، الاستفادة، حيث يتيسّر ذلك، من التناقضات الأهليّة لبناء قواعد حاملة لهذا الكلام البسيط والسهل.وليس سرّاً أن بلدان المشرق جميعها تزخر بمثل هذه الفسيفساءات القابلة للاستثمار السياسيّ.
خامساً، أن النسبة الضخمة جدّاً من صغار السنّ التي تعجّ بها مجتمعاتنا في المشرق، والتي يعاني معظمها انسداد فرص العمل، تحيل ذاكرة الماضي نسيّاً منسيّاً. فقلّةٌ اليوم هي التي تتذكّر أن بلداننا امتلكت، ذات مرّة، بدايات تقليد سياسيّ، أو أننا، ذات مرّة، عشنا في مدن مزدهرة وكوزموبوليتيّة.
في مقابل هذه الوجهة الصارخة والهجوميّة لحلف الممانعين، ماذا نجد؟ لا نبالغ إذا قلنا:لا شيء تقريباً.
فالعنصر الشابّ،وهو تعريفاً الأعلى نشاطيّة وديناميّة في كلّ مجتمع، لا يجد ما يغريه ويلهب خياله في دعوات"الاعتدال" التي تتّخذ غالباً شكل الوعظ الأبويّ البليد وذي الطابع الموسميّ المتقطّع. ثمّ، إذا كان "المعتدلون" مُحرجين بتحالفات مع قوى غربيّة عاجزة عن فرض حلول مقنعة في فلسطين والعراق،لا سيّما الولايات المتّحدة، فإن بعضهم مُحرَج بالفساد والهدر مما يشوب عديد الأنظمة"المعتدلة"، وعديد رموزها "المعتدلين".وفي المعنى هذا يترتّب على تلك السيرورة إنتاج طواقم سلطويّة ونُخب مجتمعيّة لا تملك أيّة جاذبيّة في نظر الكتل الشعبيّة العريضة، لا سيّما الشابّة منها. فهؤلاء الأخيرون، وبحكم أعمارهم، هم الأكثر انشداداً الى صور مثاليّة ونقيّة يستطيع الممانعون أن يخاطبوها ويوجّهوها وجهة المقاومة والجهاد، بقدر ما يستطيع الفاسدون من المعتدلين أن ينفّروها بقوّة فسادهم. والى ذلك، هناك الحرج الثقافيّ الذي يعيق كلّ دعوة الى الإصلاحات الدينيّة أو طرح مسألة المرأة أو اللحاق بالحداثة وأشكالها في الميادين التي يبدو أنها تتعلّق بـ"مقدّسات" و"ثوابت" قيميّة صير الى تأويلها على نحو جامد.وما يضاعف الصعوبات، على الصعيد هذا، ارتباط الموقف الثقافيّ العريض بترجمته المفترضة في برامج التعليم كتباً ووسائل تدريس وغير ذلك.وغنيّ عن القول إن هذه الجبهة هي التي تتيح للممانعين أن يكسبوا لا معركة الحاضر فحسب، بل معركة المستقبل أيضاً. فكيف إذ ينضاف هذا جميعاً الى ممارسات ضيّقة الصبر والأفق يصعب كليّاً الدفاع عنها، كسجن الصحافيّين في مصر مثلاً، واللجوء، هنا وهناك، لأحكام بالغة القسوة بما فيها الإعدام. أما عن جمود الحراك السياسيّ وبطء حركة تجديد النُخب التي تحمل للرأي العام وعوداً إيجابيّة، فحدّث ولا حرج.
وهذا وذاك إنما يتّصلان بمفهوم عديم الديناميكيّة لـ"الاعتدال" نفسه، هو المفهوم المعتمد لدينا. فالمصطلح المذكور لا يعني الوقوف في الوسط بين موقفين نقيضين، وإلاّ بتنا أمام تصوّر سلبيّ، راكد وعاجز. فالاعتدال، في المقابل، موقف إيجابيّ، أو هكذا ينبغي أن يكون، بحيث يتحوّل وقوفاً فوق المواقف المتناقضة، لا بينها، فيؤول الى تجاوزها ويؤشّر هجوميّاً الى مستقبل يتعدّاها.
والراهن أن مواجهة هذه الأسئلة – التحدّيات لم تعد قابلة للتأجيل بتاتاً. ذاك أن منطقتنا أثمن من أن تُترك لخليط فكريّ مفاهيميّ تنقاد به طائعةً الى أحضان أحمدي نجاد أو قتلة العراق أو ضبّاط سوريّة، ظانّة، بهذا، أنها تلاقي انتصارها في منتصف الطريق، وهي لا تلاقي، والحال هذه، إلا حتفها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية