أشار بعض المراقبين في لبنان، وهم يعانون قرف "الفراغ الرئاسيّ" الممزوج بخوف متعدّد الأشكال من المستقبل الوشيك، الى ضرورة أن يخرج اللبنانيّون من الطائفيّة، أقلّه في نظامهم السياسيّ.
وهي، بالطبع، دعوة تجمع الوجاهة الى الصواب وحسن النوايا، لكنها تنطوي، أيضاً، على صعوبة تكاد تقارب الاستحالة.
لنقل بادئ ذي بدء إن من غير المبالغة القول إن نجاح اللبنانيّين في إنجاز هدف كهذا مهمّة مركزيّة من مهمّات العبور اللبنانيّ الى الحداثة. وما دامت المسألة وثيقة الاتّصال، كما سوف نرى، بالأوضاع العربيّة المجاورة، صحّ القول إن إنجازه مؤشّر على نموّ قابليّات الحداثة في الجوار العربيّ كذلك.
وهو تقدير لا يُراد منه الهروب الى إنشاء مبالغ يفخّم المعاني ويجوّدها. لكن لنلاحظ حجم المسائل الكثيرة والبالغة الأساسيّة التي تتّصل بتجاوز الطائفيّة في بلد كلبنان:
فهناك، أوّلاً، نظرة اللبنانيّ الى نفسه بوصفه منتمياً لا الى جماعة بل الى مجتمع سويّ. وهو أمر يبقى، حتى إشعار آخر، غريباً عن التقليد "السياسيّ" المعتمد، منذ قرون، في عموم العالمين العربيّ والاسلاميّ. ذاك أن الفرد، هنا، لا يتقدّم بوصفه مواطناً مساوياً لأيّ مواطن آخر في الحقوق والوجبات، بل يحضر بوصفه ابن دين أو طائفة أو اثنيّة أو منطقة. وهذا اذا ما كنا قد حفظناه منذ بني هاشم وبني أميّة، ثم مع الأمويّين (عرب وغير عرب)، والعباسيّين (مسلمين وغير مسلمين، وعرب وعجم)، وبعدهم خصوصاً مع الأتراك العثمانيّين، فإن تلك الولاءات تحوّلت، في العصر الحديث، الى وسائط للحصول على فرص العمل وقنوات لتوزيع الثروة، فضلاً عن تطوير كلّ جماعة ثقافةً فرعيّة تختصّ بها وتميّزها عن سائر الجماعات الأخرى في الوطن نفسه.
وثانياً، هناك خوف الجماعات الأصغر من الجماعات الأكبر في عالم مؤسّس على ضعف الاندماج الوطنيّ وأحياناً انعدامه. ولمّا كانت الطائفيّة ضامناً، أو بالأحرى ضامناً وهميّاً، لحياة هذه الجماعات ولمصالحها، بات تبديد الخوف شرطاً شارطاً لتخطّيها. بيد أن هذا التبديد مرهون، بدوره، بحصول تحوّل نحو التسامح لدى الجماعات الأكبر والأقوى، تسامحٍ هو وحده ما يحمل الطمأنينة الى الأصغر والأضعف. وفي المعنى هذا يغدو عبور الطائفيّة في لبنان مرهوناً حكماً بالاصلاح الدينيّ، أقلّه بظهور علامات على انطلاقه، في عموم العالم الاسلاميّ. ولا يؤتى بجديد حين يقال إن الظرف الراهن ليس، على الإطلاق، مصدر تشجيع لتوقّع كهذا: فمن تناسل الحركات الأصوليّة وما تعمّمه من تأويل للنصّ الدينيّ شديد الحَرفيّة والرجعيّة والتعصّب الى الهجرات المتعاظمة للأقليّات الدينيّة، لا سيّما المسيحيّة، في عموم المشرق، ترتسم صورة معتمة جدّاً.
وهناك، ثالثاً، تغذّي الطائفيّة على الصراعات الاقليميّة والقضايا الايديولوجيّة التي تتوسّلها القوى المؤثّرة أو تتذرّع بها. فإذا كانت المخاوف الطائفيّة هي التي حملت، في السابق، معظم الطائفة السنّيّة على مبايعة مصر الناصريّة، كما تحمل اليوم معظم الطائفة الشيعيّة على مبايعة ايران الخمينيّة، فإن هذه المبايعات وغيرها لا تلبث أن تؤدلج النزاع الطائفيّ وتزيده احتداماً. وغالباً ما تُستخدم القضيّة الفلسطينيّة، وتوابعها من صراع مع اسرائيل ومع الغرب بوصفها الحجّة المركزيّة في المساجلات الطائفيّة، وصولاً الى طرح "هويّة" لبنان على المحكّ مرّة بعد مرّة.
ينجرّ عن ذلك أن عبور اللبنانيّين للطائفيّة مرهون، أيضاً، بنزع الجذرة الايديولوجيّة عن مسائل المنطقة عموماً. وهذا ما يبقى مستحيل الحصول من دون نهايةٍ ما يُختتم بها الصراع الفلسطينيّ/ العربيّ- الاسرائيليّ، وبالتالي يصار الى تقويض الأنظمة العسكريّة والديكتاتوريّة التي تستمدّ نسغ حياتها من الصراع المذكور.
والحال، وهو ما لا يريد أن يراه الراديكاليّون القوميّون واليساريّون من غير الطائفيّين، أن كل إمعان في أدلجة المسائل إمعانٌ في تحكيم المشاعر والمخاوف الطائفيّة باللبنانيين.
وفي لغة أخرى، يمكن القول إن النظر الى المنطقة بوصفها دولاً كاملة السيادة تتشارك في عدد من المصالح، لا بوصفها مجموعة قضايا عابرة للحدود والسيادات، هو وحده ما يشكّل البيئة الصالحة لعبور الطائفيّة في لبنان وبين اللبنانيّين.
وهذا، حين يؤخذ معاً، لا يقتصر على استبعاد التبسيط، الأخلاقيّ منه والخطابيّ، الذي يحيق بمطلب تجاوز الطائفيّة، بل، فوق هذا، يضعنا أمام خيارين ليس أيّ منهما سهلاً: فإما ربط مسألة التجاوز بتلك القضايا الشائكة للمنطقة برمّتها، وإما تحييد لبنان، بعد توافق معظم سكّانه على ذلك، عن شؤونها الايديولوجيّة ذات الترجمة الاستقطابيّة عسكريّاً وأمنيّاً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية