فيما تشهد غزّة المأساة التي تشهدها، لا بأس بالعودة قليلاً الى الوراء والتذكير بالفصل التأسيسيّ للكارثة الراهنة، لعلّ في وسع استعراض كهذا أن يعاود ترتيب الأمور والأولويّات والمسؤوليّات، وطنيّاً وإقليميّاً.
ففي مقابل المطالبة المستجدّة بدولة فلسطينيّة، جاء غزو صدّام للكويت ينمّ عن ضعف الإحساس الجماهيريّ العريض بمسألة الدولة ومبدأ الاستقرار داخل حدودها. ولم تقف المسألة عند المبايعة الواسعة للديكتاتور العراقيّ، إذ منذ أوائل التسعينيات بات الاسلاميّون والقوميّون العرب وبعض قادة الطوائف والعشائر ومعهم بعض بقايا اليسار المناهض للامبرياليّة يجتمعون في ظل أُطُر جبهويّة واحدة ويعلنون مواقف راديكاليّة موحّدة، ناشرين نوعاً من إيديولوجيا شعبيّة هي القاسم المشترك الأدنى بين ملايين العرب. وما لبث أسامة بن لادن أن وجد في حضور القوات الأميركيّة في أراضي السعوديّة، حيث مدينة مكّة، مناسبة لتدشين نشاط إرهابيّ راح يصير تدريجاً ذائع الصيت.
وكان في هذا التلاقي من مواقع شتى، وبأساليب وتعابير مختلفة، شيء من الإقرار بأن العرب غير سعداء بهذا العالم الذي يرونه ضدّهم، والذي يدعوهم كي يتوحّدوا بأيّ طريقة كانت من أجل أن يواجهوه. والعالم المكروه هذا هو ذاك الذي كُتبت قيادته للغرب، ثم خرجت من بطنه "العولمة" الملعونة التي تهدّد بالتدخّل في أصغر تفاصيل حياة العرب الحميمة. وبتحرير الكويت عبر تحالف دوليّ واسع قادته الولايات المتّحدة، تُرك العراق، وهو بلد عربيّ أساسيّ ومركزيّ، يتعفّن تحت وطأة الحصار من الخارج والاستبداد في الداخل.
وقد بدا يومذاك أن ثمة تعويضاً للعرب والمنطقة في إطلاق عمليّة السلام التي تنهي النزاع العربيّ-الاسرائيليّ، خصوصاً أن الانتفاضة الفلسطينيّة السلميّة، أواخر الثمانينيات، وضعت قضيّة شعبها تحت نظر العالم وأضوائه. هكذا تكفّل مؤتمرا مدريد في1991 ثم أوسلو في 1993 تأسيس السلام، ومن ثم إقامة سلطة وطنيّة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة.
لقد كان من الواضح أن الورقة الايجابيّة التي وفّرتها الانتفاضة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة تسمح لها بدخول عمليّة السلام، بقدر ما تضغط عليها، في الاتّجاه نفسه، عوامل أخرى أهمّها حرب تحرير الكويت. ذاك أن وقوف أكثريّات الفلسطينيّين العريضة، قياداتٍ وجماهير مخيّمات، الى جانب صدّام حسين أدّى الى قطع المعونة الماليّة عنهم من قبل دول الخليج النفطية. ويُفهم باقي أسباب التحوّل الفلسطينيّ حين نضيف تغيّر الاتّحاد السوفياتيّ على يد ميخائيل غورباتشوف، والخوف من أن تقطف دمشق، التي وقفت الى جانب واشنطن في حرب تحرير الكويت، الثمرة الفلسطينيّة مثلما قطفت الثمرة اللبنانيّة مع إنهائها تمرّد الجنرال ميشال عون.
لكن البيئة الثقافيّة، الفلسطينيّة والعربيّة، لا سيّما المصريّة حيث كانت مصر السبّاقة الى السلام مع الدولة العبريّة، بدت ضدّيّة ورفضيّة بحماسة. فالصحافة العربيّة، من التابلويد الحزبيّ الى صحف التيّار العريض ذات الرصانة المفترضة راحت تزخر بالحملات على التطبيع مع اسرائيل ومهاجمة فكرة "الشرق الأوسط الجديد" بوصفها مشروعاً لنهب المنطقة. وفي هذا السياق عبّر العداء لأميركا عن نفسه بمناسبتين لا تُعدمان الخصوصيّة الثقافيّة. فقد انعقد مؤتمران للمرأة والأقليّات لقيا كلّ الشجب وكلّ النفي لأن تكون هناك مشكلتا مرأة أو أقليّات لمجرّد أن الولايات المتّحدة ترعى المؤتمرين! ورّدة الفعل هذه جاءت تعلن أن الضدّيّة الراديكاليّة بدأت تكسب لنفسها مساحات جديدة تتأسّس عليها نقاط تقاطع أكبر فأكبر بين حاملي الوعي الإسلاميّ الأصوليّ وبين الحداثيّين، القوميّين واليساريّين، المناهضين للامبرياليّة.
وكان هذا السلوك الصادر عن غالبيّات النخب العربيّة متخلّفاً عن استجابة الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة ممن أتعبهم الاحتلال والمواجهات العسكريّة، وبدأوا يعبرون عن ارتياحهم الى السلام المستجدّ وعائداته الملموسة.
وقد عنى هذا، في المقابل، ان سورية ستتشدّد أكثر في منافستها الفلسطينيّين على تمثيل قضيّتهم والتحدّث باسمها. وهذا، على صعيد إجرائيّ، كان يقضي بالمزيد من الإمساك السوريّ بلبنان بحيث لا يفلت هو الآخر من قبضة دمشق.
وكان دائماً السؤال المطروح حيال النهج الراديكاليّ والضدّيّ الذي تتّبعه دمشق، لا سيّما بعد تحالفها مع إيران: هل تريد سورية فعلاً استعادة هضبة الجولان من إسرائيل مقابل تخلّيها عن نفوذها الإقليميّ؟ ذاك أن استرداد الجولان وقيام سلام بين دمشق وتل أبيب، ينقلها من كونها دولة استثنائيّة في المشرق ليحوّلها دولة طبيعيّة تنكفئ الى داخل حدودها وتعالج مشاكل تحوّلها الى وطن ودولة وطنيّين.
وهذا كلّه مما سبق صعود نتانياهو بعد حملة إرهابيّة مكثّفة صوّتت له عمليّاً، وقبل استشراء العنف واندلاع الانتفاضة الثانية وباقي التطوّرات المأسويّة التي ذقنا جميعاً مُرّها...

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية