قبل ثلاثين سنة وقّع الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، اتفاقيّتي كامب ديفيد، وبعد عام كانت معاهدة كامب ديفيد الشهيرة التي أنهت نزاعاً تاريخيّاً بين مصر وإسرائيل.
كان يُفتَرض، والحقّ يقال، أن يكون الفلسطينيّون هم الطرف المبادر الى ما فعله المصريّون. ذاك أن النزاع ابتدأ في فلسطين وعليها، وبفلسطين يُفترض أن يُختَتم. لكنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وكما هو معروف جيّداً، لم تكن يومها مالكة قرارها. فقد وجدت نفسها في بيروت أسيرة القرار والإرادة السوريّين، ودمشق آنذاك كانت تقود "جبهة الصمود والتصدّي" للسادات وسياساته. هكذا استأنفت المنظّمة نشاطها العسكريّ من جنوب لبنان واستأنفت إسرائيل، في المقابل، ضرباتها الانتقاميّة ووسّعت نطاقها.
لهذا السبب ولغيره مضى الصراع في طريقه، فكان الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في 1982 ومن ثم ولادة حزب الله، كما اندلعت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى بعد حين. وفي موازاة ذلك نشبت حروب لا هوادة فيها في المشرق العربيّ، منها السياسيّ، كالاصطفاف الذي أرسته قمّة بغداد في 1979 ضدّ "الساداتيّة"، ومنها العسكريّ، كالمواجهات الدمويّة الحادّة للثمانينات بين السوريّين والفلسطينيّين "العرفاتيّين" كما بين السوريّين واللبنانيّين "حلفاء العرفاتيّين" في القاموس السوريّ.
لكنْ لئن نجت مصر بذاتها، تُرك الشطر الآسيويّ من المشرق يتعفّن تحت ثقل تناقضاته المتفجّرة. وإذ اقترنت التناقضات هذه بالثورة الإيرانيّة التي قامت في 1979، وتقاطعت معها، ارتسم خطّان في حياة المنطقة وفي مسارها يمكن وصفهما بشيء من التبسيط والتعميم، بالساداتيّة والخمينيّة.
والحال إننا يمكن أن نقرأ التاريخ اللاحق والمتأخّر بوصفه محاولة هروب من هذين الخيارين "الأقصيّين". فـ"المتطرّفون" كسوريّة، ومعها لبنان في سنوات وصايتها عليه، شاؤوا ألاّ يختاروا نهج الخمينيّة كاملاً صريحاً. و"المعتدلون" كمنظّمة التحرير والأردن، شاؤوا ألاّ يتبعوا طريق السادات بحذافيره.
وبغضّ النظر عن خلافات في التفاصيل، هنا وهناك، وفي معزل عن مخاض مديد ومعقّد، هنا وهناك أيضاً، انتهى الأمر بمنظّمة التحرير الى توقيع سلام أوسلو في 1993 ثم وقّع الأردن معاهدة وادي عربة بعد عام واحد. وانتهى الأمر بسوريّة، من ناحية أخرى، الى اتّباع الطريق الإيرانيّ، خصوصاً بعد رحيل حافظ الأسد في 2000 المصحوب بالانسحاب الاسرائيليّ من لبنان، وهو ما تعاظم نوعيّاً إثر انسحاب الجيش السوريّ منه بعد خمس سنوات.
وفي غضون ذلك يمكن قول أمرين لا تزال المنطقة تعيش تحت وطأة تأثيرهما: أوّلهما، أن إطالة عمر الحسم من قبل "المعتدلين" كلّفت أكثر مما كانوا يتجنّبونه في حال إقدامهم على الحسم، والثاني أن في وسع إسرائيل أن تسرّع الوجهة السلميّة العربيّة أو أن تبطّئها تبعاً للسلوك الذي تسلكه حيال الفلسطينيّين.
مع هذا لا بدّ من استدراك، ولا بدّ تالياً من استدراك على الاستدراك. فهناك إشارات لم تعد قليلة على ما يمكن، في حال نجاحه، أن يغدو نهجاً ثالثاً: فمن مؤتمر الدوحة اللبنانيّ وما أعقبه من انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة، الى الوساطة التركيّة المعلنة ما بين سوريّة وإسرائيل، انتهاءً بالوساطة(؟) الفرنسيّة مع حركة "حماس" والتقديرات في صدد مصالحة بينها وبين "فتح"، فضلاً عن بغض الإشارات الإيجابيّة أمنيّاً في العراق، تتجمّع علامات على شيء ما يقف في الوسط بين الخمينيّة والساداتيّة، وربّما يشي بنظام إقليميّ جديد لا يعادي الولايات المتّحدة ولا يطابقها بالضرورة.
بيد أن الاستدراك على الاستدراك مفاده أن نقطة القوّة الوحيدة في هذه الوجهة الضعفُ الراهن للسياسة والنفوذ الأميركيّين. فهل يكفي هذا العنصر وحده لوقف القضم والتمدّد اللذين تمارسهما الحركات الراديكاليّة ولرسم حدّ لطموحاتها السلطويّة؟ وهل تنضبط إسرائيل، لا سيّما حيال إيران، بالإملاءات التي يستدعيها الضعف الأميركيّ الحاليّ، علماً بأن الدولة العبريّة لا تتكتّم على رغبتها في حسم "الخوف من طهران"؟ وأخيراً، هل يعقل أن تبقى الولايات المتّحدة الى ما لا نهاية على ضعفها المذكور هذا؟
حازم صاغية
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية العلوم الاجتماعية الآداب