أواخر الثمانينات كانت زمناً للتفاؤل، على رغم احتلال الكويت الذي حصل لاحقاً في غرّة التسعينات. وفي نظرة إجماليّة يبدو أن ثمّة تعويضاً للعرب والمنطقة مثّله إطلاق عمليّة السلام التي تنهي النزاع العربيّ-الاسرائيليّ، خصوصاً أن الانتفاضة الفلسطينيّة السلميّة كانت وضعت قضيّة شعبها تحت نظر العالم وأضوائه. وهو ما لم يخلُ من مقدّمات، حيث كان الفلسطينيّون، منذ خروجهم من بيروت وتحرّرهم من القبضة السوريّة عام 1982، بدأوا يعدّون العدّة لقرار مجلسهم الوطنيّ الذي صدر عام 1988 وقضى بتبنّي قرار الدولتين الفلسطينيّة والاسرائيليّة على أرض فلسطين التاريخيّة.
هكذا فإن مؤتمري مدريد في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1991 ثم أوسلو في أيلول (سبتمبر) 1993، تكفّلا بتأسيس السلام مقابل الأرض، ومن ثم إقامة سلطة وطنيّة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة تكون استهلالاً لتطبيق مبدأ الدولتين. وقد سبق ذلك إلغاء الكنيست الاسرائيليّ في 20 كانون الثاني (يناير) 1993 القانون الذي يمنع اللقاء بمندوبي منظّمة التحرير الفلسطينيّة. ومن ناحيته تجسّد أحد الفوارق المهمّة وذات الدلالة الايجابيّة على تطوّر الأمور ما بين مدريد وأوسلو، في الانتقال من وفد واحد أردنيّ ينضوي فيه أفراد فلسطينيّون، وهو ما أصرّت عليه إسرائيل حينذاك، الى صيغة التفاوض مع فلسطينيّي منظّمة التحرير بصفتهم تلك.
لقد جاءت أوسلو تلزم اسرائيل بأن تسحب قوّاتها على مراحل من اجزاء من الضفة الغربيّة وغزّة مؤكّدة على الحقّ الفلسطينيّ في الحكم الذاتيّ ضمن هذه المناطق التي تقوم فوقها سلطة فلسطينيّة. وبدورها اعترفت منظّمة التحرير رسميّاً بالدولة العبريّة وتعهّدت ان تكون مسؤولة عن الأمن في المناطق التي يجلو عنها الاسرائيليّون. وقُرر ان يستمر الحكم الذاتيّ الفلسطينيّ خمس سنوات يصار خلالها الى التفاوض حول اتّفاق دائم ونهائيّ. وكان الأمر بمثابة مسوّدة لا تخلو من غموض وحاجة الى التدقيق، لكنّها، مع هذا، مدعاة تفاؤل كبير، لا سيّما بقياس الصراع وتاريخه وطاقته التدميريّة وبالأخصّ بقياس أكلافه على الفلسطينيّين.
كذلك اختلفت الأمور نحو الأحسن على جبهة اسرائيل وسورية التي شاركت هي الأخرى في مدريد. ذاك ان الاسرائيليّين، في ظلّ حكومة اسحق شامير المتزمّتة، لم يكتموا قلّة حماستهم للتوصّل الى نتائج أو لتحقيق انسحابات لأنّ ما كان يهمّهم هو التفاوض لأجل التفاوض. 
بيد ان المسألة اختلفت بعد تولّي اسحق رابين العماليّ رئاسة الحكومة في 23 حزيران (يونيو) 1992. ففي آب (أغسطس) 1993 أوصل رابين رسالة باتت شهيرة الى السوريّين، عبر وارن كريستوفر وزير الخارجيّة الأميركيّ، يعرب فيها عن استعداده لإعادة هضبة الجولان بكاملها إن هم وقّعوا على اتّفاقيّة سلام تلبّي المطالب الإسرائيليّة في الأمن والمياه، وهو ما بات يعرف بـ"وديعة رابين".
وفي كانون الثاني (يناير) 1994 انعقدت قمّة بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس الأميركيّ بيل كلينتون في جنيف، حيث تعهّدت سورية عدم تعطيل المسار السلميّ الفلسطينيّ - الاسرائيليّ وإقامة علاقات سلام عاديّة مع الدولة العبريّة. وكانت هذه عبارات يتفوّه بها الأسد علناً للمرّة الأولى. وما لبث ان التقى السفير السوريّ في الأمم المتّحدة وليد المعلم بإيهود باراك، المستشار العسكريّ لرئيس الحكومة، والذي التقاه أيضاً اللواء حكمت الشهابي أحد أركان نظام الأسد. وعلى رغم خيبات أمل متبادلة اعتاد الطرفان على التعبير عنها، أمكن التوصّل في أيّار (مايو) 1995 الى وضع ورقة "أهداف ومبادئ ترتيبات الأمن" بينهما. ثم اغتيل رابين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995. لكنْ لأن شمعون بيريز الذي حلّ محلّه، استمرّ على التزامه بـ"وديعة رابين"، استؤنف التفاوض في واي بلانتيشين بالولايات المتّحدة حيث أمكن التقدّم في بعض المسائل العمليّة والتقنيّة.
وفي شباط (فبراير) وآذار (مارس) 1996 شهدت القدس وتل أبيب وعسقلان عمليات انتحاريّة لم تود فقط بالتفاوض السوريّ - الاسرائيليّ، بل أودت أيضاً ببيريز نفسه الذي رسب في الانتخابات العامّة لمصلحة بنيامين نتانياهو مستفيداً من موجة العمليّات الانتحاريّة وغير الانتحاريّة التي سبقت الانتخابات.
والسؤال، بعد هذه الجردة السريعة، هل يمكن فهم التراجع الهائل الحاصل خلال العقدين الماضيين من دون الإجابة عن السؤال: من كان وراء انهيار السياسة في المنطقة؟

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية