قد تكون المنطقة العربيّة أكثر مناطق العالم تعليقاً على "عودة الحرب الباردة" واهتماماً بها، أكان الأمر احتفاء بالحدث المفترض أو معارضة له، وهذا قبل أن يتأكّد ما إذا كانت حرب كهذه عائدة فعلاً أم أن الأمر ضرب من المبالغة.
يشي هذا الاهتمام، في حالاته جميعاً وعلى اختلاف مواقعه، بمدى الترابط بين المنطقة المذكورة والنزاع القطبيّ كما عرفه العالم ما بين أوائل خمسينات القرن الماضي وأواخر ثمانيناته. ذاك أن المتخوّفين من "عودة الحرب الباردة" يقلقهم أن تتكرّر المآسي التي تسبّبت بها تلك الحرب للمنطقة وأهلها، فيما المتفائلون بـ"العودة" يعرفون أن الصراعات التي هي مطروحة اليوم، وبالطريقة التي تُطرح فيها، لا سبيل إلى خوضها من دون تحالف مع قوّة دوليّة مناهضة للولايات المتّحدة الأمريكيّة المحسوبة حليفةً راسخة ودائمة لإسرائيل.
وربّما كان القاسم المشترك بين الطرفين انطلاقهما من فرضيّة ضمنيّة تعطي الأولويّة في حياة المنطقة الى العالم الخارجيّ، وتهمّش أهميّة السياسة والحراك الداخليّين والقدرة الذاتيّة على المبادرة. وفي هذا إقرار مداور بالضعف، ولكنْ أيضاً بالدونيّة التي تلازم كلّ من يظنّ أنه آخر المتحكّمين بأموره!
لكنْ، وعلى الهامش، لا بدّ من التذكير بمعطيين، من قبيل التحفّظ على فكرة "عودة الحرب الباردة"، وهما مما سال حولهما في الغرب حبر كثير: الأول، أن روسيا، في أحسن أحوالها، لن تكون سوى قوّة إقليميّة عظمى، فيما الولايات المتّحدة، الأقوى بلا قياس اقتصاديّاً وعسكريّاً، لن تبقى الى ما لا نهاية أسيرة "مستنقعيها" العراقيّ والأفغانيّ، أو رهينة سياسات غبيّة كالتي اتّصفت بها الإدارة الحاليّة الآفلة قريباً.
والثانية، أن أهميّة القوقاز في نظر واشنطن لا تُقارن على الإطلاق بأهميّة الشرق الأوسط، لا سيّما بعدما قفزت التحدّيات الإيرانيّة إلى صدارة الأجندات العالميّة، الأمنيّ منها والسياسيّ والنفطيّ. وهو ما يترك في خلفيّة الصورة احتمال تسوية، مع العهد الأميركيّ الجديد، يقرّ لروسيا بدرجة من النفوذ الإقليميّ في جوارها، مقابل ضمان استمرار تدفّق النفط الروسيّ غرباً، على أن تسلّم موسكو للغرب، وخصوصاً الولايات المتّحدة، بحريّة الحركة في الشرق الأوسط (ولا بأس بالتذكير بأن موسكو لن يسعدها، في آخر المطاف، قيام قوّة نوويّة في جنوبها الإيرانيّ). ومعطيات كهذه هي، في أغلب الظنّ، ما حدا بسوريّة أن تنفي انتقال أسلحة روسيّة إليها تخلّ بالتوازنات الاستراتيجيّة المتعارف عليها، كما حدت بالرئيس بشّار الأسد، في القمّة الرباعيّة في دمشق قبل أيّام، أن يتمنّى عدم عودة الحرب الباردة مع الإشارة إلى مضارّها ومخاطرها.
على أيّة حال، قد يكون من البديهيّ القول إن العرب، وسواهم من شعوب العالم ومناطقه، يستفيدون من تعدّد الأقطاب، أكثر مما تفيدهم أيّة أحاديّة قطبيّة، بغضّ النظر عمّن يكونه ذاك القطب الواحد. فهذه معادلة لا يُمارى فيها ولا يُمارى في طبيعتها الكونيّة الشاملة. مع هذا، فإن العرب، وسواهم من شعوب العالم ومناطقه، يتضرّرون من الحرب الباردة أكثر مما يتضرّرون من الأحاديّة القطبّية (اللهمّ إلاّ إذا كان القطب الواحد، في هذه الحال، نازيّاً أو عقائديّاً من النوع الذي يقول بانقسام العالم مراتب جوهريّة مغلقة).
وحرب 1967 العربيّة - الإسرائيليّة لا تزال المثال الساطع على ضرر الحرب الباردة التي يريد البعض عودتها. فهذه كانت بمثابة المواجهة النموذجيّة للحرب الباردة، حيث توزّعت ساحات الاشتباك ما بين جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة. ونعرف أن الهزيمة التي منيت بها مصر وسوريّة والأردن يومذاك، وفي خلال أيّام ستة، هي ما لا تزال شعوب المنطقة تعيش آثارها وتدفع أكلافها الباهظة.
وقد جاءت حرب أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973، بعد ستّ سنوات، لتعلن كم أن تعديل القوى، في ظلّ الحرب الباردة، معاق ومسدود. وهنا وجدت المنطقة العربيّة نفسها أمام قراءتين: الأولى، وهي الساداتيّة - المصريّة، التي اعتبرت أن الخروج من منطق المواجهة الدوليّة وإقفال "ساحة" مصر في وجه الحرب الباردة هما ما يتكفّلان إعادة الأراضي والحقوق الوطنيّة إليها. وهذا السلوك ما حكم التوجّه اللاحق الذي عبّرت عنه اتّفاقات كامب ديفيد في 1978-79. وفي المقابل، كانت القراءة الأسديّة – السوريّة التي حُملت "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" بالقوّة والقسر على الأخذ بها، ومفادها البقاء في خانة الحرب الباردة من خلال البندقيّة الفلسطينيّة ولبنان بوصفه ساحة. وكان تتويج النهج هذا في اجتياح 1982 الاسرائيليّ للبنان، بالكوارث التي انطوى عليها والكوارث التي افتتحها.
من ناحية أخرى، أشّرت نهاية الحرب الباردة الى انفتاح الباب للمشروع السلميّ، وتالياً قيام دولة فلسطينيّة، وهو ما عبّر عنه افتتاح مؤتمر مدريد في 1991، ومن ثمّ اتّفاقيّة أوسلو في 1993 التي تكرّست في حديقة البيت الأبيض.
والراهن أن الصراعات، من أيّ نوع كان، عملت لغير صالح العرب. حتّى جمال عبد الناصر الذي لعب ورقة الحرب الباردة حتّى الثمالة، انتهت تجربته بحرب 1967. أما حافظ الأسد فلم يتمكّن، في ذروة تحالفه مع الاتّحاد السوفياتيّ، من أن يبني "التوازن الاستراتيجيّ" مع إسرائيل كما توخّاه. أما لاحقاً، فإن التوجّه السلميّ كانت ثماره لتكون أكبر لولا الغزو العراقيّ للكويت بُعيد ضمور الحرب الباردة، وفي محاولة هزيلة للبدالة عنها.
والشيء نفسه يمكن قوله في خصوص 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الذي كانت ضحيّته الأولى المسألة الفلسطينيّة إبّان الانتفاضة الثانية. وهنا أيضاً ربّما جاز القول إن وهم البدالة عن الحرب الباردة الذي راود صدّام حسين بغزوه الكويت، عاد ليراود أسامة بن لادن وقاعدته ممن أرادوا "دكّ" معقل "الصليبيّة والكفر" في نيويورك وواشنطن.
والحقّ ان الذين يرون فوائد في التوتّرات، أكانت حروباً باردة أم محاولات لتقليد الحروب الكبرى، هم الذين لا يريدون السلام الإقليميّ لشعورهم أنهم فيه يخسرون كلّ موقع لهم. لكنّهم أيضاً، وعلى ما تشير التجارب، يريدون للاستبداد أن يبقى، وللإصلاح، كي لا نقول الديمقراطيّة، أن لا ينمو في تربتنا. فإذا صحّ أن الطريقة التي طرحت فيها الإدارة الأميركيّة موضوعة الديمقراطيّة في العالم العربيّ كانت سطحيّة وبائسة النتائج، صحّ أيضاً أن الموضوعة هذه ما كانت لتُطرح، لا على نحو سطحيّ ولا على نحو عميق، في زمن الحرب الباردة.
وليس عديم الدلالة أن مريدي التوتّر والحروب، البارد منها والساخن، نادراً ما يستشهدون بالمرارات التي صاحبت عهد الحرب الباردة، عائدين، المرّة بعد المرّة، إلى قيام إسرائيل في 1948. وإحدى وظائف تلك العودة إرجاع النقاش إلى الأصول التاريخيّة وفصله، من ثمّ، عن السياسة والتعاطي بها. وهذا أشبه بعطش إلى العنف يتطلّب الكارثة حين يتطلّب الحرب الباردة، ملحّاً، بشتّى الطرق والتعابير، على أن الأخيرة لا تكفي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية