أما وقد بلغنا من الأمل سفوحه بعد أن سطا عليه من سطا من حَمَلةِ رماح التّكفير، وسيوف التّرهيب، والعبث بالعقل، وتشويه الفطرة السّليمة لتغدو أداة سحق ومحق، فهل يحقّ لنا بدل أن نأمل أن نحلم؟ وحلمي ليس سوى تمنٍّ يُحيل إلى وقائع التّاريخ، أو يتدفّأ بها. ووقائع التّاريخ تلك هي التي حدثت في أوروبا، عندما طغى الكهنوت، وامتلك "الحقيقة"، وتاجر بها! فكان يمكنه أن يبيع الجنّة بصكوك الغفران، بالأفدنة والأمتار، وتلك كانت ذؤابة الغباء السّياسيّ في الموضوع. فبعد السّيطرة المطلقة على ممالك أوروبا بجبروت المؤسّسة الدينيّة في الفاتيكان، لم يكن من الفكر الداهي أن ترسّمها بالتّجارة (عينك عينك)، بانحراف صارخ عن روحانيّة ابن مريم والدّيانة التي سال دمه الشّريف من أجل أن تسيل كالأنهار في فلوات الأمم بعد الرومان. فكان للطّفل الرّضيع أن يُدرك ما شاه من أمر الكنيسة، فيرفع عقيرته بالتّأنيب والاحتجاج، وكان ذلك الطفل مارتن لوثر الذي أحدث حركة شرخت جبروت الكنيسة المنحرفة عن منابعها الأصيلة إلى الإفراط في تجميع القوة بضمّ الاقتصاد إلى حظيرة الدّين ليصبح مع السّياسة الذراعين التي تعصر الشّعوب مع ملوكها وتلجمها.
ولكن الشّعوب الأوروبية لم تلجمها الكنيسة أكثر مما فعلت، فانتفضت عليها، كما تنتفض جماهير الغضب على طغاتها، ولكنها كانت بها رحيمة فلم تجتثّها وتشيطنها كما فعلت الشيوعية مثلاً، بل أبقت عليها، بعد أن قصّت أظافرَها، وقالت لها: إلى بيت الربّ عودي، فلا شأن لك بمال قيصر! وهكذا دلفت العلمانيّة إلى الكرة الأرضيّة، على يد فساد أهل الدين ومؤسّسته الأولى، وتبرّم الناس بإكراهاتها وطول باعها ولوغاً في حياة الأتباعِ، ومحاصرة لأدقّ تفصيلات حياتهم.
وعلى هذا نستطيع أن نحيل إلى قراءة فيما ستؤول إليه الأحوال بعد أن يعيث في الحكم تيار إسلاميّ يمتلك "الحقيقة" مثلما يمتلك وحده حقّ الانتفاع بمخطّطات (مع مداخل ومخارج) جميع الشوارع والأتوسترادات المؤدّية إليها. مثلما حلّ في جميع أبنائه الفهم الإلهي والفقه الإلهي، بحيث لا تقع ذرة رمل مما يقولون ويفعلون على أرض الخطأ أو الضّعف البشريّ. فكلّ ما يدلقونه على الرؤوس والأفهام فهو من "الدين الخالص" وبالنصّ الحرفيّ، يحفّ الصوابُ به كأمّ صغارُها في اللبن والقماط، حتى لو صالوا وجالوا في الحياة والأقدار!
فإذا كان هذا ما نشهده على فضائيات ومنابر فقّست في ظلال النّفط والدّولار، وإلى ذلك الأميّة القرائيّة وجاراتها.. وإذا كان هذا الذي نشهده يصعد إلى الحُكم كقضاء وقدر محتوم، إثر "ثورات" أريد بها فكاكاً للشعوب من نير حراثة وعبودية فجاءت بأغلال استعباد من نوع ممتاز منقوع في الزيت الإسلامي ثمانين عاماً، ويغلي على نار النقمة على الغرب ونتاجه من الحرية والتحرّر والديمقراطيّة "الكافرة".. إذا كان هذا ما سيكون حالنا بعد أشهرٍ أو سنوات قليلة (في أبعد تقدير!)، فما سيكون حالنا بعد حالِنا هذا؟
سيستولي الإسلاميّون المتأسلمون –لا فرق– على الحكم في جميع الدّول العربيّة، وربما بقي جيب هنا وجيب هناك، وسيُمعنون في الشّعوب العربيّة تنكيلاً باسم الدين، وسيقرفون عيشتها كما فعلت الكنيسة في أوروبا، وسيدخلون بين المرء وروحه، والمرأة وسريرتها، وسيطاردون الليبراليّة والعلمانيّة (ناهيك عن المذاهب والأديان الأخرى)، مطاردة الكنيسة لمن خالفها حرقاً وخوزقة تحت مسميّات السّحر الأسود. ستُحاصر النساء في مظهرهن وعلمهن وعملهن ووجودهن العام والخاص، وستُعقد محاكم تفتيش في الضمائر، وستُفنى الفنون والآداب "صنو الكفر والزندقة"!
سيحدث كلّ ذلك وأكثر، ولكنّ لن يستمرّ إلى الأبد.. ففي لحظة تاريخيّة كمثل لحظتنا التّاريخيّة هذه، سيثقل الحملُ الكريه ظهر الشّعوب العربيّة، التي ستمسك بتلابيب مؤسّسة الحكم المتأسلمة، فتدمّرها على نحو ما فعلت شعوب أوروبا بكنيستها، التي تجاوزت حدّ الدّين إلى حرم الدّنيا، فعملت نهضتها وازدهارها.
وعلى هذا أؤسّس للأمل وأربّيه...
المراجع
rasseen
التصانيف
صحافة زليخة أبوريشة جريدة الغد