الأزمنة الأصعب، على ما كتب ألكسي دو توكفيل مرّة، هي التي تسجّل سقوط نظام، أو وضع، من دون أن ينشأ نظام آخر أو وضع بديل. ففي هذه الهوّة يمكن أن تسقط أشياء كثيرة ومعانٍ أكثر، كما يمكن للتفاهة أن تسود وتنتشر. وهناك، مثلاً، كثيرون من علماء الاجتماع السياسيّ الذين فسّروا صعود الفاشيّة الأوروبيّة في العشرينات والثلاثينات على هذا النحو: انهيار العالم القديم في الحرب العالميّة الأولى، بتفسّخ الامبراطوريّات الثلاث: الهبسبورغيّة النمسويّة – المجريّة، والقيصريّة الروسيّة، والسلطنة العثمانيّة، في ظلّ تعثّر ولادة الديمقراطيّة وتبلورها في أطراف أوروبا الغربيّة، أي في ألمانيا وسط القارّة ثمّ البلدان التي تليها شرقاً، وفي إيطاليا وأسبانيا في جنوبها.
اليوم، هناك شيء من هذا يتململ في عالمنا العريض بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط. وقد تكون الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، الجارية اليوم، ذات دلالة فعليّة ورمزيّة ضخمة في آن معاً، لا سيّما إذا ما انتُخب المرشّح الديموقراطيّ المرجّح فوزه، باراك أوباما. ذاك أن هذا الأخير يعكس، من جهة، الطلب الواسع والملحّ على التغيير، بقدر ما يعكس، من جهة أخرى، غموض هذا التغيير الموعود وطبيعته وحدوده.
واقع الحال أن الأحاديّة القطبيّة ربّما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وتنهي عمرها القصير نسبيّاً الذي ابتدأ مع انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتّحاد السوفياتيّ. هذا، على الأقلّ، ما يشير إليه "الانبعاث الروسيّ" كما تجلّى في جورجيا والمآسي السياسيّة والاستراتيجيّة والماليّة التي آلت إليها سياسات الإدارة البوشيّة ما بين العراق وأفغانستان ووول ستريت.
مع ذلك، ليس واضحاً تماماً ما الذي سيحلّ محلّ تلك الأحاديّة. صحيح أن كلاماً كثيراً يتردّد عن القوى الصاعدة الجديدة، كالصين والهند وروسيا، وعن انتقال أجزاء سمينة من الثروة والنفوذ إليها كانت، حتّى اليوم، في عهدة الدول الغربيّة. مع هذا، من الواضح أن البلدان المذكورة لا تمتلك كامل العناصر التي تتيح لها لعب هذا الدور. فنهوض روسيا لا يزال محكوماً بالنفط، فيما لا يزال على الصين والهند أن تعبرا شوطاً طويلاً جدّاً للتغلّب على فقر مدقع يعانيه مئات الملايين من سكّانهما، وهذا ناهيك عن أن النظامين السياسيّين في روسيا والصين لم يستقرّا بعد على نموذجين في السلطة والحكم متبلورين ونهائيّين.
ثمّ إن النظام الماليّ العالميّ، وبالتالي النظام الاقتصاديّ، ربّما كانا، بدوريهما، يدخلان طور النهاية، على ما أعلنت الأزمة الأخيرة المستمرّة. لكنّ هذا لا يزوّدنا، حتّى الآن، إلاّ بالقليل من صورة الوضع البديل الذي لا يكفي أن يقال، في وصفه، إنّه رأسماليّة من نوع آخر. فهل سيتمّ، مثلاً، الرجوع إلى الكينزيّة، وهل هذا ممكن اليوم؟ أم أن كينزيّة جديدة ستلوح في الأفق، وفي هذه الحال، كيف سيكون ذلك، وما ستكون ملامحها؟
والراهن أن الركود وما يستجرّه من بطالة واسعة في البلدان الصناعيّة يمكن أن ينمّي قوى متطرّفة وشبه عسكريّة أو ميليشويّة تنيب نفسها مناب الدول، كما قد يعزّز مشاعر العداء للأجانب. واحتمال كهذا يجد ما يرفده في حقيقة الانتشار الواسع للأفكار الرجعيّة، القوميّ منها والدينيّ، في زمن صعود الهويّات على نطاق كونيّ. والحقّ ان التاريخ الأوروبيّ الحديث يعلّمنا أن نخاف تلاقي الأزمة الاقتصاديّة والفكر الرجعيّ في حقبة وسياق محدّدين، على ما حصل في الثلاثينات. وهو ما يُخشى، مع تمدّد الأزمة عالمياً، أن يمتدّ إلى وسط أوروبا وشرقها، خصوصاً أن التقاليد الديمقراطيّة لا تزال طريّة العود في ذاك الجزء من العالم. فكيف إذا ما مضى سعر النفط في تراجعه مع التأثيرات الهيوليّة التي يتركها تطوّر كهذا على الوضع الروسيّ؟
وأمّا عندنا، في الشرق الأوسط، فالانتقاليّة الغامضة لا تخفى على عين ناظرة. يكفي القول إننا عشيّة انتخابات ثلاثة في إسرائيل وإيران ولبنان. غير أن لهذا حديثاً آخر...

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية