ما يجمع بين اليهود العراقيين حبّ للعراق وحنين لا يوازيهما إلاّ الاستياء من الظروف التي انتهت بهم في إسرائيل ومصاعب الاندماج التي واجهتهم هناك
أتيح لي، خلال عروض خاصّة في بيروت، أن أشهد فيلمين في أسبوع واحد: "انسَ بغداد" و"سَلطة بلدي".
الفيلم الأوّل أخرجه العراقيّ المولد، السويسريّ-الألمانيّ الإقامة، سمير جمال الدين (يكتفي سينمائيّاً باسم سمير)، والثاني لمخرجته المصريّة نادية كامل.
"انس بغداد" يتناول تجربة اليهود العراقيّين الذين اضطُرّوا، في بداية الخمسينات، إلى مغادرة وطنهم، العراق، والتوجّه إلى إسرائيل. وما نبّه سمير إلى إلقاء الضوء على هذه التجربة أن والده كان شيوعيّاً وكان له، إبّان نضاله في الأربعينات، رفاق شيوعيّون يهود. وعلى امتداد ساعتين، نقل شريطُه تلك المعاناة الممتدّة من بلاد الرافدين إلى الدولة العبريّة، من خلال أربعة أدباء عراقيّين، ثم إسرائيليّين، انضمّوا جميعهم ذات مرّة إلى الحزب الشيوعيّ العراقيّ: سامي ميخائيل وشمعون بالاّص وسمير نقّاش وموشي حوري، ومعهم الباحثة العراقيّة الأصل المولودة في إسرائيل إيلا حبيبة شوحات.
وما يجمع بين هؤلاء كلّهم حبّ للعراق وحنين لا يوازيهما إلاّ الاستياء من الظروف التي انتهت بهم في إسرائيل ومصاعب الاندماج التي واجهتهم هناك. واندرجت هنا أسباب في عدادها مجزرة "الفرهود" التي نزلت بيهود بغداد في 1941، ثم قيام إسرائيل وإصدار الحكومة العراقيّة القانون الشهير الذي يتيح لها إسقاط الجنسيّة عن المواطنين اليهود، وأخيراً أعمال التفجير التي يُرجّح أن منظّمات صهيونيّة كانت وراءها لحمل اليهود على الهجرة إلى الدولة العبريّة.
أمّا الفيلم الثاني، "سَلطة بلدي"، فيتناول عائلة تضافرت الأديان الثلاثة، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، لتشكيلها، كما التقت روافد وطنيّة عدّة في عدادها المصريّ والفلسطينيّ والإسرائيليّ والإيطاليّ واللبنانيّ. وكما كان أبطال الفيلم العراقيّ شيوعيّين، كذلك كانت الجدّة المصريّة في "سلطة بلدي"، نائلة كامل، التي يتبيّن أنها "ماري" اليهوديّة التي اعتنقت المسيحيّة واقترنت بالمسلم سعد كامل.
الفيلمان ليسا جديدين إذ انقضت عليهما سنوات قليلة. وقد تعرّضا، لا سيّما الثاني، لانتقادات حادّة أخذت عليه "تطبيعيّته"، خصوصاً أنّه شمل زيارة لـ"الأقارب" في إسرائيل. لكنّ مأخذاً كهذا لا يلبث أن يتبخّر أمام مشاهدة عمل كـ"سلطة بلدي" يرتفع بنا إلى البُعد الإنسانيّ المشترك العابر للسياسة والهموم الجزئيّة. فهو يقول لنا إنّنا جميعاً بشر، وإن بشريّتنا المشتركة تجمع بيننا بأكثر مما تفرّقنا مواصفاتنا النسبيّة. وهذه قد تكون وظيفة العمل الثقافيّ الأولى.
لكنّ الفيلمين يقومان، كذلك، بتصحيح التاريخ أو تحريره من الرواية الاختزاليّة والنضاليّة التي باتت، منذ الخمسينات والستينات، تستولي على معرفتنا الفقيرة. فليس تاريخنا كلّه، على ما يقال بكثرة وإفراط، تاريخ صراعات ومؤامرات وكراهية. بل ان هذه المنطقة عرفت، ذات مرّة، أحزاباً سياسيّة تجمع بين شتّى أبناء الديانات والمذاهب، كما ضمّت مدناً كوزموبوليتيّة ومتسامحة اتّسع صدرها لليهوديّ والمسيحيّ وللإيطاليّ واليونانيّ وغيرهم. أمّا الصراع مع إسرائيل، فلا يغيّر في حقيقة أساسيّة هي أن ثمّة يهوداً عرباً ينتمون إلى بلدانهم مثلما ينتمي مسلمو تلك البلدان ومسيحيّوها، وقد كانوا، مثلهم مثل الفلسطينيّين، ضحايا ذاك الصراع. فحين خسرتهم مجتمعاتنا، بنتيجة الصراع المذكور وذيوله، خسرت الكثير من غِناها وتعدّدها.
هل أن الفيلمين، مأخوذين معاً، علامة أخرى على الحنين إلى ذاك الماضي؟ أغلب الظنّ أنْ نعم. لكنّه حنين... فالماضي مضى حقّاً.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية