الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: هذا الموضوع من الأمور الحساسة والمهمة في نفس الوقت وخاصة للرواحل وللمهتمين بالعمل الدعوى والخيري على وجه الخصوص، وان كان يعنى شرائح متعددة كذلك من المجتمع العربي. فان مبدأ التقاعد في مجتمعاتنا العربية تعنى "مت" "قاعد" وهذا مبدأ مضيع للجهود ومهدر لتراكم الخبرات التي جناها المتقاعد من خلال عمله الذي امتد لسنوات قد تصل إلى الثلاثين. أقول أن الغرب انتبه لهذه القضية وأسلافنا من المسلمين الأوائل لم يكونوا يعرفوا هذا المفهوم المعطل لطاقات واسعة ممن مارسوا الحياة وتراكمت لديهم الخبرات. ونرى سيدنا أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - على سبيل المثال- وقد بلغ من العمر الثمانين عاماً رفض أن يموت في المدينة وهى التي حوت أحبابه وأصحابه وأحب أن يرافق الجيش الذي ذهب ليفتح القسطنطينية (اسطنبول) ولقي الشهادة هناك على أسوار المدينة من غير أن تفتح. وكذلك الكثير من سلفنا الصالح الذين لم تمنعهم السنوات الخمسين أو الستين أو السبعين من النشاط والحركة للاهتمام بمصالح المسلمين. عموماً أحببت أن أقدم بهذه المقدمة حتى تشمل جميع المعنيين من الذين وصلوا أو سيصلون للسن القانونية للتقاعد وهى قد تبدأ من الخامسة والأربعين (كحالتي) وتصل إلى الخمسين والستين. وأحب أن أضيف أن الغرب يستعدون لما بعد الخمسين بوقت مبكر، كما قرأت في احد المقالات في هذا الموضوع الذي طرح بدائل واقتراحات قبل أن يصل بك العمر إلى الخمسين ومن أمثلة ما طرح أن تشارك في مجلس إدارة مدرسة خيرية حتى تستطيع أن تتفرغ للعمل فيها بعد وصولك لسن الخمسين. أتحدث إليكم من خبرة شخصية في هذا الموضوع فقد يسر الله لي أن طرح نظام التقاعد المبكر عندنا في السعودية عند إكمال خمس وعشرون عاماً من العمل، وحيث أنني التحقت بعملي منذ دخولي الجامعة كمبتعث من الشركة استطعت أن أتحصل على هذه الميزة التي احصل بسببها على 62% من راتبي ولله الحمد. اذكر لكم تفاصيل هذا القرار الجريء والذي استغربه الكثير من الناس سواءً من الأهل أو من الإخوة. عموماً بعضاً من الإخوة الدعاة أيد الفكرة بقوة ولكن كان التردد هو السمة العامة لمن تحدثت معهم وكانت الإشكالية في الدخل بعد التقاعد من ناحية، وتدنى رواتب المؤسسات الخيرية من جهة أخرى حيث أن الكثير من هذه المؤسسات الخيرية تعتمد اعتماداً شبه كلى على المتعاونين أو المتطوعين من أصحاب الشهادات والخبرات، وبالتالي تكون الطبقة المتفرغة من أصحاب الخبرات المحدودة وبالتالي فان الرواتب تكون متدنية للغاية مما لا يشجع أصحاب الخبرات والشهادات بالتفرغ لان العائد غير مجزى. ولعلي اسرد لكم بعض الومضات في هذا المجال حتى تكون الصورة واضحة جلية لمن أحب أن يقدم على هذه الخطوة الجريئة (التقاعد المبكر أو التفرغ للعمل الدعوى والخيري) التي احسب أنها أصبحت ضرورة خاصة للمهتمين والمتحرقين للعمل الدعوى والخيري: 1. بداية الفكرة: نحن المسلمين نحتاج إلى مراجعة دقيقة لحياتنا والهدف منها وما إذا كان الإنسان منا يستغل أوقاته بالشكل المطلوب والذي يحقق أهدافه وطموحاته. توقفت قليلاً مع نفسي عندما كانت فرصة لي في عام 1420 هـ حيث انتدبت من قبل شركتي إلى مدينة الظهران. فكنت أبقى فيها أيام الأسبوع وارجع إلى أهلي نهاية الأسبوع، مما سبب في تغيير في حياتي وإعطائي فرصة لمراجعة أهدافي والغاية من أعمالي. فكان القرار بضرورة استغلال أفضل لحياتي العملية حيث أنني كنت أحس بأن وقتي لم يكن مستغلاً فيما اطمح إليه واحلم فيه(وهنا طبعاً يحتاج الواحد منا إلى تحديد ما هي أهدافه في الحياة أولاً). 2. استمر التفكير على هذا المنوال وبدأت أتحدث به مع المقربين من أهل وأصدقاء. وكانت الإشكالية المطروحة هي: المزايا والدخل الذي أتحصل عليه من الشركة التي اعمل بها، ولكن كان الرد في المقابل أن تعمل في مكان وأنت مرتاح فيه وتحس بأنك تنتج وتخدم أهدافك. وكان من هؤلاء والدي عليه رحمة الله حيث أكد بأنه ينبغي أن اعمل في مكان وأنا مرتاح فيه نفسياً. 3. اظهر الكثير من الأخوة الدعاة تأييدهم الشديد للفكرة ولكن كان التطبيق يحتاج إلى إقدام حيث أن الدخل قد لا يكون مناسباً، ولكن الجميع كان مؤيداً بضرورة وحاجة مثل هذا التفرغ خاصة لمن يستطيع أن يقدم شيئاً للعمل الإسلامي والخيري. 4. بقى الأمر متعلق بـ "من يعلق الجرس" أو بالأحرى من يقوم بكسر الحاجز العرفي لدى المجتمع بأن التقاعد إنما يكون بعد أن يشيخ الإنسان ويصل إلى سن الشيخوخة والعجز. 5. قمت بالاستخارة مراراً وتكراراً وكنت دائم الاستشارة وخاصة الوالدين والزوجة والذين كانوا يؤيدون الخطوة ولكن إشكالية الدخل كانت هي المحور الأساسي. 6. قمت مع زوجتي بمراجعة الدخل والاحتياجات ووضعنا حداً لما ينبغي أن يكون عليه الدخل الجديد بالإضافة إلى الراتب التقاعدي ووصلنا إلى اتفاق محدد. 7. قمت ولله الحمد بتقديم استقالتي من الشركة وقد كانت حدثاً تاريخياً حيث أن الإنسان في عالمنا العربي يخرج من عمله الثابت والمستقر بلا مشاكل هو أمر مستغرب، ولكن عندما كان الجميع يسمع أن الاستقالة كانت للتفرغ للعمل الخيري والدعوى كانوا يباركون القرار بل وكان البعض منهم يتمنى اتخاذ مثل هذا القرار الجريء. أود أن اذكر هنا الفوائد - بعد مرور سنة كاملة ولله الحمد- التي جنيتها من هذا القرار وهو بفضل الله ثم برضى الوالدين وتعاون الزوجة الكريمة: 1. التخلص من الديون وذلك بعد الحصول على حقوقي في الشركة والتي استطعت بها ولله الحمد من تسديد كل الباقي من ديوني. 2. الراحة النفسية التي أتمتع بها حيث أنني اعمل متفرغاً للعمل الخيري والدعوى وأصبح لدي القدرة على اتخاذ أي قرارات من سفر أو اتصال أو اجتماع أو زيارة مما لم أكن استطع أن أفعله فيما سبق. وان كان الأمر مازال فيه ارتباط لارتباطي بعملي الخيري الجديد ولعل هذا الأمر يكون لفترة مرحلية إلى أن أقرر الآفاق المستقبلية لنشاطاتي. 3. الاختلاط بمجموعات طيبة من الدعاة والعاملين في حقل العمل الخيري والدعوى ومن أماكن مختلفة في العالم خاصة في أوقات الزيارات الموسمية من رمضان والحج. 4. وجود فسحة من الوقت لمشاركة الأهل والأبناء في بعض البرامج الخاصة كالغداء اليومي وإيصالهم للمدارس وإرجاعهم منها. 5. وجود وقت مناسب للعائلة وخاصة الوالدين بالجلوس معهم وقضاء حوائجهم بالشكل المناسب. 6. الإحساس بالحرية في اتخاذ قرار العمل أو عدمه وانفتاح آفاق واسعة بالتفكير في المستقبل. اختم حديثي بالقول بأن هذا القرار وهو التقاعد المبكر أو التفرغ للعمل الدعوى والخيري من الضروريات الحالية والتي تحتاجها الدعوة والعمل الخيري للحاجة الماسة وكذلك لضعف المؤسسات الخيرية وتأثرها إدارياً وتسويقياً وخاصة من المعنيين والمهتمين بهذا الملف. ولعلي اذكر هنا أمراً مهماً وهو أن الرزق بيد الله وهو الرزاق ذو القوة المتين، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولو توكلنا على الله حق التوكل لرزقنا كما يرزق الطير الضعيف حيث يخرج من عشه مبكراً وما يرجع حتى يرزقه الله قوته وقوت أبنائه كما اخبر بذلك الحبيب - صلى الله عليه وسلم -. فلنتوكل على الله ولنتخذ القرار ولننشئ جمعية المتفرغين للعمل الخيري والدعوى.

المراجع

islamselect.net/mat/13344"المختار الاسلامي

التصانيف

عقيدة