مجددا، تؤكد رؤية رجل ماليزيا الاول مهاتير محمد ان الطريق الى اقتصاد قوي لا يكون إلا بالاعتماد على الذات وباحترام العقول الابداعية التي لم يمسها الفساد من امامها او خلفها ، فيما تتألق هذه الرؤية اكثر عندما تضع خطا فاصلا بين اقتصاد آسيوي متقدم وصناعي بامتياز وبين ما تفرضه الشركات المتعددة الجنسيات والنسق الاميركي للاقتصاد عبر التدخل واحداث الدمج الوهمي بين الاقتصادين على نحو غير مقنع كما تشير التجربة الماليزية.
ثمة مناسبة لهذا الحديث ، فالسقوط التدريجي لأكبرالبنوك وشركات التأمين في اميركا والعالم في اعقاب ازمة الرهن العقاري ، يحتم علينا اعادة النظر هنا في مساراتنا الاقتصادية ، والتساؤل عن نقاط الضعف والقوة ، والتدقيق فيما انجز لتوسيع اطره وتعميمه والوقوف على الهنات والخسارات التي تحققت بفعل السير في خطى الامركة الاقتصادية وما اتصل بها من عبارات " الديجتال " وتنمية " الافكار والمشروعات " المدعومة من الوكالة الاميركية للانماء الدولي.
منذ نحو عقدين وخطى الاقتصاد الاردني تتعثر احيانا وتسير في احيان اخرى  ضمن ادوات السوق الحر طبقا للنظرية الرأسمالية – ولو بشكل مختلف نسبيا – فمرة تتوسع في عمليات وصفقات الخصخصة تجاه خلاص الدولة من كونها كانت تاجرا او صناعيا او مستثمرا في يوم من الايام، مرورا بسلسلة علاقات تجارية واقتصادية مع اوروبيين واميركيين وقبل ذلك اسرائيليين لم تنقطع حتى اليوم، وصولا الى محاولة تقمص الرؤية الاميركية في الادارة والبناء وادارة المشاريع من خلال تطوير وتاهيل اجيال متلاحقة على ذلك.
في السنوات العشر الاخيرة يمكن القول إن التجارب المتلاحقة انتجت اقتصادا عاد الى المربع الاول في سؤاله الرئيس، فعمليات التغيير والتحول التي طاولت معظم القطاعات الانتاجية قلصت من عدد العمالة في غير مؤسسة كبرى، كما ان هيكل الاسعار وارتباطها استمر على منوال صعب، ما اسس مؤخرا الى تضخم يصعب على الاجهزة الرسمية كبح جماحه ، والسؤال هنا : هل يحتاج المستهلكون الى رعاية ؟ وهل يمكن ترك قوى السوق تتصارع ويدفع ثمن هذا الصراع في نهاية الامر المواطن والمستهلك البسيط ؟
الذين حملوا اسم تيار "الديجتال" في الحكومات المتعاقبة وحتى في الحكومة الحالية فشلوا في الاجابة عن هذه الاسئلة، كما فشلت حلولهم التجميلية في تمكين المواطن الاردني ، وذهبت مئات الملايين التي انفقت ادارج الرياح، فيما  بقي البون شاسعا بين من يرغب في ان يرى عمان مزدهرة بالابراج والنوادي والمطاعم الفاخرة وبالشباب الذي يلبس بدلات انيقة ويتحدث الانجليزية اكثر مما يتحدث لغته الام ، وبين من يتلفت الى انين المحرومين على اطراف العاصمة  ووسطها.
التيار ذاته رفض اكثر من مرة ان يتم انشاء جهاز للحفاظ على حقوق المستهلكين بعد ان تضاءل دور وزارة الصناعة والتجارة الى مستويات ليس من ضمنها رقابة الاسعار كما كان في السابق ، ويقابل ذلك التهاب الأسعار المتسارع وبقاء التيار نفسه ومؤيديه متفرجين على الازمات التي سقط في مواجهتها المستهلك الاردني  وخارت قواه على امتداد السنوات الاخيرة.
ثمة ضرورة تفرضها الوقائع وتطورات الاحداث عالميا ومحليا ، ومفادها ان هذا التيار - الذي لم يقدم الكثير للاردنيين بل على العكس قلص من قواهم -   يجب ان يترجل ويترك الطريق لمن يؤمن برعاية الدولة للطبقات المحرومة كي يتسنى اعادة البناء من جديد. وبقياس النتائج فان هذا التيار لم يخرج بهوية محددة للاقتصاد المحلي، كما انه تحرك في بيئة تفشى فيها الفساد واكثر من ذلك فهو استمر في زج الاقتصاد  في اتون ازمات وسط غياب للحلول.
تيار "الديجتال المحلي" لم ينجح في عرين الفكر الرأسمالي، ومن غير المعقول ان ندافع عنه هنا وان نبقى نتعامل معه بتقديس استنادا الى كون هذا التيار مخلصا، وعلى العكس من ذلك، فان البلاد تحتاج الى عقول قادرة على التوازن بين الاشتراكية والرأسمالية من دون التغول في واحدة على حساب الاخرى وبما يضمن تقديم نتائج افضل مما رأينا في اختبارات السنوات الاخيرة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي