من قارة إلى أخرى ومن بلد الى بلد، ينتقل الاعصار المالي الذي يعصف بالاقتصاد العالمي، ويكبر اثره وتتعاظم تداعياته وسط حالة طوارئ بدأت في الغرب قبل شهور وهي تتسلل الآن الى الشرق بصور مختلفة.
في التشخيص، ثمة تسطيح يتداوله كثيرون حيال تبيان اثر هذه الازمة على العالم وعلينا، بحيث يبدو الامر وكأنه ازمة عابرة عصفت ببعض الاسواق وستتلاشى قريبا، غير ان واقع الحال ليس كذلك، فهي ازمة سيولة ومضاربات وإفلاسات وانهيار فعلي لمنظومة العمل في السوق الحر.
وفي الوقت الذي يبلغ فيه حجم النواتج الاجمالية في العالم نحو 60 تريليون دولار، اربعون في المائة منها في الدول النامية، فإن حجم  المشتقات المالية التي تظهر في ميزانيات عدد من الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الكبيرة -ومنها بعض البنوك الاستثمارية التي انهارت في الولايات المتحدة- تكشف عن وجود حسابات جانبية في الميزانيات وتعبر عن نشاطات تعاقدية وهمية غير حقيقية وترتب التزامات على الشركات ويفوق حجمها حجم الاقتصاد العالمي -أي فوق 60 تريليون دولار- وهي في الواقع ليست سوى مضاربات أو "قمار" لا رصيد فعلي لها.
مرة اخرى، ليست ازمة رهن عقاري فحسب أو أزمة سيولة عابرة أو ازمة ستطيح بأسواق المال العالمية لفترة وجيزة، انها حرب وصراع بين ادوات الاقتصاد الرأسمالي الحقيقية والوهمية -العرض والطلب من جهة والمضاربات والمقامرة من جهة ثانية- وفيها انحياز وموقف عالمي سيتضح لاحقا في سياق البحث عن حلول للخروج من المأزق، وقد يخرج العالم من هذا المأزق بكساد يمتد لسنوات، بيد ان الاكثر اهمية يكمن في حسم شكل هذه الادوات التي اوصلت الاقتصاد الى ما هو عليه الآن.
ثمة من يضارب -يقامر- على البترول كسلعة استراتيجية في بورصتي نايمكس ولندن ووصل بسعره الى مستوى 147 دولارا للبرميل في الاسبوع الثاني من شهر تموز (يوليو) الماضي، والمضاربون انفسهم وبفعل الاعصار الحالي في اسواق المال والبورصات خفضوا سعر برميل النفط الى اقل من ثمانين دولارا قبل ايام، وذات التلاعب أو العبث يجري في اسواق الغذاء على القمح والعدس والحبوب وباقي المحاصيل الزراعية، ويجري المشهد ذاته في اسواق المعادن من فضة وذهب وألمنيوم وحديد وغيرها.
كل هذه السلع لم تخضع في العامين الاخيرين الى تسعير ناجم عن العرض والطلب العالمي حيالها، لقد كانت عرضة للتقلبات الناجمة عن المضاربات التي لا رقيب عليها، ولذلك بدأ العالم يتحدث عن ازمة في اسواق الطكاقة وأزمة في اسواق الغذاء والتشخيص الاولي لكل ذلك، لم يكن سوى مضاربات أو مقامرة في اسواق السلع الاستراتيجية.
ليس المقصود مما سبق اثارة الفزع والذعر في اوساط المستهلكين ومالكي الاسهم المحليين، لكن حقيقة الموقف تقتضي تسمية الازمة بمسمياتها الحقيقية، وما المهدئات التي تبثها التصريحات الرسمية والمقالات الصحافية من ان الاثر علينا جراء الاعصار المالي العالمي سيكون ايجابيا وليس سلبيا بالاستناد الى تراجع اسعار النفط والاستفادة من قوة الدولار الا تضييقا للمدارات وللأفلاك التي بلغها وسيبلغها هذا الاعصار.
هنالك ازمة سيولة في الاسواق الغربية، وتخلف غير مسبوق في تاريخ العالم عن الدفع لالتزامات بطاقات الائتمان، وأبلغ من ذلك مؤشرات على بدء انهيار وإفلاس عدد من صناديق التقاعد في أميركا وأوروبا، فضلا عن كساد سيسيطر على الاسواق لوقت قد يطول.
تطمينات رئيس البنك الدولي روبرت زوليك اول من امس بخصوص مساعي بنكه لحث الدول الكبيرة على تجاوز النظرة الى الازمة في الداخل ومواصلة دعم الفقراء في الدول النامية وإرسال المساعدات الى الخارج، تعد امرا مستبعدا في الفترة الحالية، فمعظم العواصم في الغرب تضخ يوميا المليارات للسيطرة على اسواقها وتجاوز الافلاسات، وليس في ذهن مخططي ومسؤولي تلك الاقتصادات تحمل مسؤوليات وأعباء اضافية.
العالم بموجب التوسع في المضاربات تحول الى كازينو كبير، والمطلوب تشخيص الازمة على نحو اكثر عمقا في محيطنا الداخلي والعربي، والتحاور بمسؤولية وفهم تفصيلي لما ستتحول اليه الاقتصادات في الفترة المقبلة، فلا التقليل أو التهويل من اثر الازمة علينا يغير في الامر شيئا، لكن التصرف بذكاء واتخاذ القرارات اللازمة في الوقت المناسب بما يخص الاقراض والتسهيلات وأسعار الفوائد وحركة الصادرات والمستوردات وتحديد الاولويات.. كل ذلك يسهم في تقليل الخسارات ويساعد الاسواق على التكيف مع اللحظة الراهنة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي