على مر العقود الثلاثة الأخيرة، لم تكن الحكومات تقع ضمن دائرة المساءلة والمحاسبة الحقيقية على ما اقترفت من اخطاء في التخطيط والتفكير والتنفيذ الاقتصادي، وظلت البلاد عرضة للتجربة والخطأ، رغم وجود برلمانات ومؤسسات يفترض أن تعنى بالرقابة، حتى ضاعت البوصلة وبتنا لا نعرف من المخطط ومن المنفذ ومن المسؤول والمراقب لهما، واهدرت تبعا لذلك بلايين كثيرة ضمن معادلة انتفاء المعيارية وغياب الشفافية.
الآن، وبعد حصاد سنوات عجاف أمست عمان هي الاردن وذابت باقي الجغرافيا الاردنية في تخوم تلك الحقيقة التي تؤكدها مرارا ثروات وضرائب وفلل أهل عمان، وذهبت أموال ما سمي التحول الاجتماعي والاقتصادي وعشرات المشاريع التجريبية أدراج الرياح، واستوطن الفقر في غير بقعة وزادت رقعته كيفما أُطلق العنان للعين بعيدا عن عمان وأبراجها.
الإطلالة الجديدة للخروج من عنق الزجاجة جاءت حكومية ايضا، لكن عنوانها هو تقسيم المملكة الى ثلاثة أقاليم وبقاء العاصمة منفصلة، ليصار الى دمج الخطط التنموية والاصلاح السياسي والاقتصادي وتحقيق الخلاص للفقراء عبر تنفيذ فكرة الاقاليم التي جرى التداول بها قبل نحو أربع سنوات، وتسعى الحكومة حاليا لتحويلها فكرة قابلة للتطبيق بحلول العام 2011.
القراءة الأولية لمشروع قانون المجالس المحلية للاقاليم، وهو احدى ادوات التغيير الاداري والاقتصادي المقبل، تكشف عن غرائبية هذا المشروع، ففيه حديث عن تخطيط اقتصادي واقرار خطة تنموية عامة تتم عبر الاقليم، ولا يعلم أحد مرجعيته ودرجة تخصصية الجهات التي تخطط ومدى تنافرها او تجاذبها مع وزارة التخطيط، اضافة الى عدم وضوح الأطر المرجعية التي سيلتزم بموجبها الاقليم بخطط الحكومة، وهو الامر الذي اعتقد انه سيقود الى ازدواجية السلطة، فضلا عن كونه ملمحا رئيسا من ملامح الفدرالية التي يتحقق مفهومها تبعا لوجود جيش موحد يضم البلاد بأسرها مع وجود حكومات محلية تدير شؤونها وخططها الاقتصادية على نحو مستقل والابقاء على شكل من اشكال التنسيق مع الحكومة المركزية.
وتتركز فكرة الفدرالية، التي تتطلب تعديل الدستور، في المواد التي جاء على ذكرها مشروع قانون المجالس من خلال وجود حق للاقليم بإصدار التعليمات الخاصة، والكل يعرف أن التعليمات لا تصدر سوى عن حكومة، الا اذا تم تعديل الدستور وهو ما لم يتم حتى الآن.
وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي، فإن ما هو خطير في مشروع المجالس المحلية يتمثل في أبواب مفتوحة امام إقرار موازنة يجري إدراجها لاحقا في الموازنة العامة للدولة، وليس هذا فحسب، بل يحق للمجالس المحلية فرض الرسوم "ذات الطابع المحلي" او تعديلها او الاعفاء منها او إلغاؤها، واقتراح فرض الرسوم والضرائب والتبرع بأموال الاقليم المنقولة وغير المنقولة. هنا تكمن الخطورة، فالكل يعلم أن الضريبة موحدة وتخضع لها كل مناطق ومحافظات المملكة بشكل واحد، ولنا ان تخيل، على سبيل المثال، إذا تم فرض ضريبة بنسبة 8% في اقليم مؤتة واخرى بنسبة 10% في اقليم اليرموك وثالثة بنسبة 12% في اقليم رغدان وبقيت الضريبة في عمان بنسبة 20%، فكيف ستكون الحالة مع هذه البعثرة والفوضى الضريبية، وهل ستبقى الديمغرافيا الاردنية كما هي عليه الآن أم أن رؤوس الأموال ستنتقل من فترة لأخرى تبعا للاعفاءات والتخفيضات التي تصدرها إدارات الأقاليم الثلاثة؟
وبطبيعة الحال، فإن دور مجلس النواب في الرقابة والبحث في تفاصيل الموازنة العامة للدولة سيتراجع الى أدنى مستوى، فالموازنة العامة للدولة ستتوزع على شكل حصص تحدد أولوياتها الاقاليم، وفي الوقت التي تراقب فيها هذه الاقاليم أداءها بنفسها، فإن مجلس النواب لن يدخل في تفاصيل المبالغ التي تقررها الاقاليم لموازناتها المتصلة بموازنة الدولة.
اذا كانت بعض التجارب الحكومية قد انطوت على الفشل في التخطيط الاقتصادي خلال العقود الماضية، فإن تجربة الاقاليم بصورتها الحالية  ستزيد من نمطية التجريب والتضارب ربما بين معظم مؤسسات واجهزة الدولة، وقد لا تقدم تلك التجربة حلولا جديدة للفقراء، لا سيما وأن المجالس المحلية، بتداخلاتها الحكومية وغير الحكومية، ليست بيوت أفكار للخطط والرؤى الاقتصادية، كما ان مفوض الاقليم، كما جاء في مشروع القانون، ليس صاحب اختصاص فني حتى يبدي الرأي في كل جزئية قد لا يحيط بها علما وليست له دراية بها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي