بعد الحرب الأهلية في العام 1847، التي انتهت لصالح البروتستانت في مواجهة الكاثوليك، بدأت سويسرا مرحلة تأسيس دولة اتحادية، تضم تلاوين مختلفة في أعراقها الجرمانية والفرنكوفونية والرومانية وكذلك الدينية.
غير أن هذا التباين، نجح في صياغة خلطة سياسية واقتصادية مميزة، أسست فيما بعد لست وعشرين ولاية وسلطة في حدودها الدنيا، ولقطاع خاص كفؤ، يحكم البلاد على أسس التنافس الحر.
لا حضور للسلطة بمعناها الشرقي في ذلك الاتحاد، ولا قوة إلا للحرية والإنسان، وتساعدك الزيارة إلى بيرن ولوسيرن وزيورخ وغيرها من ولايات الاتحاد، في فهم قوة طبقة المال، التي أسست لأن تكون الدولة بيد قطاعها الخاص، وأن ينحسر دور القطاع العام، إلى أدنى مستوى ممكن.
وهو الحال الذي كان سببا في تضاؤل حجم الوزارة وعدد الوزراء، إلى 8 فقط، بينما تنتشر في أوساط نحو ثمانية ملايين سويسري، ديمقراطية مباشرة، يجري التعامل معها عبر استفتاءات كثيرة، يحكم بها السويسريون أنفسهم، وليس آخرها استفتاء حظر المآذن، الذي تسبب في الإساءة لسمعة سويسرا في الداخل والخارج.
قوة الدولة، التي ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت عضوا في الأمم المتحدة فقط في العام 2002، تكمن في أسرارها الداخلية، تلك الأسرار التي دفعت السويسريين، إلى تشييد العدد الأكبر نسبيا من المخابئ، مقارنة مع أي دولة أخرى، وفيها يوجد أطول نهر جليدي في القارة الأوروبية.
والشعب السويسري، هو أكثر شعوب الأرض استخداما للقطارات، إضافة إلى أنه الأكبر نسبيا، ضمن قائمة إعادة تدوير الزجاج وأكل الشوكولاتة؛ اذ يأكل السويسري سنويا ما لا يقل عن 14 كيلو غراما من الشوكولاتة، فيما بلغ الناتج المحلي الإجمالي قبل سبع سنوات 320 بليون دولار، وحصة الفرد السنوية أكثر من 43 ألف دولار، وفي موازاة كل ما سبق، تمكنت تلك الدولة، من أن تكون ملاذا آمنا للأموال التي تتدفق إليها ساعة بساعة.
تشير التقديرات، إلى أن حجم الأرصدة الخارجية الموجودة في البنوك السويسرية، تفوق 4 تريليونات دولار، وأن حجم الأموال العربية منها، يزيد على 400 بليون دولار، وهنا يكمن سر مصرفي عميق، إذ تتعرض سويسرا حاليا، لضغوطات كبيرة من قبل الولايات المتحدة، ومن فرنسا وغيرها من القوى العظمى، باتجاه إزاحتها عن التمسك بمبدأ السرية المصرفية، وعدم الإفصاح عن عملائها وحساباتهم.
وتأخذ تلك الضغوط، أشكالا واسعة من طلبات التتبع الضريبي للعملاء، إلى ملاحقة مصدر الأموال، لأهداف تتعلق بجهود الدول الأقوى في العالم، في مجال ما يسمى مكافحة الإرهاب، لكن المصرفيين السويسريين متمسكون بأسرارهم، تحت عنوان أكثر أهمية بالنسبة لهم، وهو حماية الخصوصية الفردية.
ثمة سر آخر بعيد عن المصارف، فعندما كاد الاقتصاد السويسري أن ينهار، في سبعينيات القرن الماضي، بسبب منافسة شرسة من قبل مصنعي الساعات اليابانيين، استطاع المهندس نيكولاس حايك - لبناني الأصل - من صناعة أول ساعة سويسرية صغيرة ورخيصة، بلغ سمكها 1.98 مليمتر، بفارق 0.52 مليمترعن الساعة اليابانية، لتبدأ بعدها سلسلة ساعات سواتش السويسرية، نجاحا عالميا غير مسبوق، وينضوي تحتها 20 ماركة شهيرة للساعات.
ويؤكد حايك في كتابه " رجل الأعمال الحقيقي يأتي دائما من صلب الإنتاج، عليه أن ينتج قبل أن يكون مديرا " .
في صناعة الشوكولاتة، ترى أيضا أسرار النجاح، فنبتة الكاكاو تصل بشروط عالية المستوى من غانا وأكوادور والبرازيل ومدغشقر وغيرها، وتخضع لعمليات إنتاج محسوبة بدقة على مستوى الطعم والجودة، وتمر مراحل الإنتاج برمتها، عبر أسس النظافة وحب العمل.
ثمة إبهار وأسرار لا تنتهي، تسلب العين في سويسرا، فالبنية التحتية استثنائية، والطبيعة خلابة، وإنسان المكان على علاقة مميزة بكل ما حوله، ويمضي قطاعها الخاص بخطوات واثقة، نحو توسيع حضورها الإقليمي والعالمي، بينما يتضاءل دور قطاعها العام ، وتبقى الأسرار.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي