المجتمع المبدع هو الذي يضم افرادا يتساوون في حقوقهم وواجباتهم، أما المجتمعات التي يتفشى فيها التمييز وتغيب عنها العدالة الاقتصادية، فهي عرضة دوما للتفكك والخراب والظواهر السلبية. العدالة الاقتصادية ليست مفهوما ساذجا يستخدمه السياسيون ورجال المال في القاعات المغلقة بقصد الدعاية، إنه منهج حكم وادارة وهو اداة لصهر المواطنين في بوتقة الدولة، وهو قبل هذا وذاك مرتبط ارتباطا مباشرا بالبنية النفسية والصحية للأفراد، ويجعلهم -إن تحقق- على علاقة وثيقة مع محيطهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإن غاب فإن النتائج تأتي كارثية ضمن صورعدم احترام القانون، واستخدام العنف بوصفه وسيلة دائمة فضلا عن تعمق حالة الاغتراب بين المرء ومحيطه.
في بلادنا العربية، والاردن ليس استثناء، ثمة ملامح واسعة لغياب العدالة الاقتصادية والمساواة بين الأفراد. ورغم ان كلمة المساواة والعدالة متكررة في معظم الدساتير العربية إلا ان التطبيق الفعلي واختبارات الأمور على الارض تؤشر على ما هو عكس ذلك تماما؛ حيث يغيب التوزيع العادل للثروة وسط انعدام الكفاءة الاقتصادية للدولة في جعل الافراد اكثر تقاربا لا سيما وان الهوة تتسع بين من يملك في المحيط العربي وبين من لا يملك بعد انهيار الطبقات خلال العقدين الماضيين وظهور طبقة جديدة تملك السياسة والاقتصاد وكل شيء ويقابلها طبقة مسحوقة تعاني لتأمين كفاف يومها. اسئلة كثيرة ذات بعد اقتصادي واجتماعي تلح علينا ولا تجد في المقابل اجابات مقنعة، فإذا سألنا عن معيارية التعليم والعمل بعد انهاء الدراسة، فإن مؤسسات عديدة في القطاعين العام والخاص ما تزال تؤمن بأن ابن الوزير يجب ان يكون وزيرا وأن ابن السفير يجب ان يكون بالضرورة سفيرا، وان المصرفي المميز يجب ان ينجب مصرفيا عتيدا وهكذا دواليك، فيما الخاسر الاكبر في تلك المعادلة البائسة الانسان وقدراته وتطوره وحياته، بعد ان يذوي مفهوم العدالة في تفاصيل الافكار المتوارثة. وبسبب ما سبق، فانت ترى مصارف لعائلات بعينها وشركات وصناعات مقفلة على عائلات محدودة ووظائف واعمالا رسمية وغير رسمية محتكرة لطبقة سياسية معينة.
ويتساءل أحدهم، لماذا تشير نتائج معظم الاستطلاعات الميدانية إلى غياب الرضا الاقتصادي وغير الاقتصادي لدى المواطنين في الاردن او في سائر البلدان العربية؟ ولماذا تشهد مجتمعاتنا وجامعاتنا وقرانا ومدننا عنفا وتحولات اجتماعية سلبية؟
في العلم تكمن الاجابة؛ اذ يقول اطباء وباحثون في علم النفس ان غياب المعاني والقيم لدى الافراد يحولهم الى مجرد محبطين ومغتربين داخل اوطانهم، وان تلاشي المعيارية وانتفاء العدالة يجعل اليأس يتسلل الى نفوس الناس لا سيما عندما يرى شاب طموح ومجتهد ان معيارية النجاح ليست في الجهد بل في أدوات اخرى لا يقوى على مجاراتها، ولذلك فإن الأفراد يكونون ضحايا ومعهم مجتمعاتهم بسبب غياب القيم وعدم تحقق العدالة باشكالها الاقتصادية وغير الاقتصادية، وهو ما يحرض على العنف والعبث والجريمة وجميع المظاهر السلبية المختلفة.
ولا يقف تأثير انتفاء العدل او غيابه على الوضع النفسي للافراد وجعلهم عرضة للاضطرابات والامراض النفسية بل ان الامر يتعدى ذلك الى صحة المجتمع في نطاق اكثر اتساعا؛ اذ اكدت دراسة المانية وسويدية شملت 21 دولة بان عدم مراعاة العدل الاقتصادي داخل أي بلد يرفع من معدل الاصابة بالامراض بين مواطنيه بنسب مقلقة، ولذلك فإن دولا مثل المانيا وبريطانيا واخرى اسكندنافية جاءت بوصفها الاقل تعرضا للامراض، اما روسيا ومعظم دول افريقيا والبلدان العربية فكان مواطنوها الاكثر تعرضا للامراض. في محاولة فهم المسؤولين لظاهرة تزايد العنف في البلاد، نسمع كلاما عجيبا لا علاقة له بالعلم او التحليل المنهجي، فثمة من يرى ان وسائل الاعلام والفضائيات هي السبب في تلك الظاهرة! وآخر يذهب الى انتقاد التعدد المجتمعي تحديدا ما يتعلق بتدفق جنسيات كثيرة تحت مسمى العمالة الى الاردن. ولكننا لا نسمع انتقادات لنسق الادارات المتراكمة لاسيما على صعيد غياب العدالة والكفاءة الاقتصادية، بغية إصلاح المسار ومعالجة الاختلالات. ما أحوجنا الى التأمل فيما قاله المفكر ابن خلدون قبل قرون "ان الدولة القائمة على العصبية لها أجل معلوم تسير نحوه لا محالة"، ويقصد هنا بالعصبية الانتماءات والتكتلات الانتقائية او الايديولوجية او المذهبية التي لا تراعي قيمتي المساواة والعدالة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حسن احمد الشوبكي