قاسية على العين والعقل هي الرحلة من العاصمة إلى أي من مناطق الجنوب.
فاختراق الصحراء وما تراه العين من جغرافيا بعيدة كل البعد عن التنمية، شملت انسان تلك المنطقة الذي طاله التهميش على امتداد عقود خلت فتراه حزينا ومحبطا وبحاجة الى ما يساعده على النهوض بأعباء حياته.
فالينابيع من حوله جفت، والزراعة باتت شبه مهجورة، وتتكئ العائلات هناك على وظائف وأعمال بسيطة لا تسمن ولا تغني من جوع.
النتيجة التي أعلنها مدير عام مؤسسة الضمان الاجتماعي الدكتور عمر الرزاز، تعزز من حقيقة الصورة الآنفة؛ إذ إن 89 % من فرص العمل تتولد في عمان، وهو ما يشير مباشرة إلى أن 11 محافظة من اصل 12 محافظة في البلاد تتنافس على فرص عمل نسبتها 11 % فقط من إجمالي فرص العمل المتاحة بعد أن استحوذت العاصمة على حصة الأسد.
ويرد آخرون بأن دافع الضريبة يتركز في عمان وبنسبة تفوق 90 % بحسب تقديرات غير رسمية، وهو ما يجعلها جاذبة لجميع السكان من مختلف المناطق تبعا لكون الخدمات فيها تتسم بالتميز والتطوير الدائم وفق بنية تحتية تعد منافسة أيضا على صعيد عربي.
وبعيدا عن وجهتي النظر، فإن كون 89 % من فرص العمل موجودة في عمان، وأن 90 % من ايرادات الضريبة تتركز في العاصمة، فإن النسبتين تشيران بشكل مباشر الى وجود خطأ منهجي في الخطط والاستراتيجيات التي سارت عليها الحكومات المتعاقبة، حتى وصلنا الى تلك النسب.
وهنا يمكن القول إن عيون المسؤولين في القطاعين العام والخاص، ظلت متصلة بعمان وتم تجاهل باقي المحافظات لصالح العاصمة وتركيز الثروة والانفاق والاقتصاد فيها.
ومن المفارقات أن الحكومة الحالية وكذلك السابقة تعهدتا بتنفيذ اللامركزية الإدارية في المحافظات، في الوقت الذي أسست فيه معظم الحكومات للمركزية الاقتصادية، بدليل أن الثروة تركزت في العاصمة وظلت جبال عمان وشمالها وجنوبها وكذلك شرقها وغربها بيئة خصبة للمستثمرين المحليين والعرب والأجانب، ولقيت باقي المدن والمحافظات تهميشا قاسيا تكشفه الارقام والنسب السابقة.
وهي تكشف أيضا عن فشل لطبقتي المسؤولين ورجال الاعمال في جعل الجغرافيا الاردنية بمجملها نقطة جذب للاستثمار وللأفكار الاقتصادية الخلاقة والمحفزة لاتاحة فرص العمل الجديدة لتشغيل الاردنيين، وتقليص معدل البطالة ولا نقول القضاء عليها.
فالمضي باللامركزية الإدارية يقتضي اولا البدء باللامركزية الاقتصادية، لأن اللامركزية الاقتصادية تعد مقدمة منطقية وطبيعية للإدارية وليس العكس.
يدعو الرزاز إلى تنمية اربد ومعان والمفرق وغيرها من المدن والقرى، بما يضمن توسيع حجم الفرص التي تشغل الأردنيين وتصنع حالة اقتصادية جديدة.
وقد أصاب في ذلك، لكن الحقيقة المؤلمة التي لا يمكن تجاهلها أن الابقاء على الحالة الراهنة سيجعل الأردن عمان، وعمان هي الأردن، وما يرافق ذلك من هجرات واكتظاظ وفقر في الهوامش وتركز للمال في المركز.
ثمة ما يدعو للتأمل والتفكير بعد إعلان مسح الفقر الذي كشف عن تراجع الفقر في العاصمة، مقارنة مع نسب الفقر الاخرى في باقي المحافظات الأردنية.
فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت فرص العمل تتولد بنسبة 89 % في العاصمة فنحن امام خط استراتيجي، يخلق بونا شاسعا بين المركز والاطراف، لكن هذا البون يضر بالإنسان ويجعله في عزلة عن محيطه، علاوة على كونه يعزز فكرة الاغتراب القاسية داخل الوطن.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حسن احمد الشوبكي