تزامنت الأحداث المحزنة التي خلفتها مباراة الوحدات والفيصلي مساء الجمعة الماضية مع تجهيزي لتقرير عن جدل الهوية والمواطنة في موريتانيا، ثمة تشابه في مشروعية سؤال المواطنة والهوية الجامعة بين البلدين في هذه المسألة وإن كان الفرق بين العاصمتين كبيرا، فعمان درة يتفاخر بها العرب والاردنيون على صعيد نماء وتطور الانسان والمكان، في حين تخطو نواكشوط بتثاقل نحو إحداث نقلة التحضر والمدنية.
حوار شيق ذلك الذي جمعني بمجموعة من الشباب الموريتاني المتحمس الذي أسس لمبادرة سبقت انقلاب الرئيس الحالي محمد ولد عبدالعزيز بشهور في 2008، واسمها "موطن"، وتهدف الى إحداث نقلة المواطنة بشكلها القانوني والدستوري الصحيح لأجيال موريتانية ما تزال رهينة لعباءة البادية والخيمة التي لم يخرج من تحتها المجتمع، في ظل حال أقرب الى نقل البداوة للعاصمة نواكشوط، فلاذ هؤلاء الشباب بالفضاء العنكبوتي بحثا عن حل لواقع بلادهم المؤلم.
سأل أحدهم وهو يتابع صورة سقوط الحاجز بعد ضرب قوات الدرك لمشجعي فريق الوحدات: هل يتصرف الامن في بلادكم تبعا لأوامر سياسية، أم أن الأمر ينطوي على خطأ وحسب؟ فأجبته: إن جواب الخطأ الفردي لا المؤسسي هو ما يتردد عادة على ألسنة المسؤولين في مثل هذه الحالات، ولكنني أدعوك إلى ما هو أهم من هذا السؤال، وكنت أقصد الحديث عن خيار الاصلاح السياسي وتقوية الهوية الوطنية الجامعة لقطع الطريق على كل الهويات الفرعية داخل النسيج الاجتماعي، وهذا الخيار يصلح دائما في تمتين بنيان المجتمع وجعله متحضرا وقادرا على النهوض والبناء لصالح صورة الوطن الاكثر أهمية، فهو البيت الذي يجمعنا، وهو أيضا وصفة سحرية لمن يبحث عن طمأنينة الأوطان واستقرارها.
وقلت للسائل: إن الاردن تقدم بخطى واثقة في الطب والسياسة والتعليم والسلم الاهلي كلما نجح في توسيع دائرة الهوية الوطنية الكبرى ونبذ الهويات الفرعية والمناطقية والحاراتية، ويبدو أن تجربة 1989 ليست ببعيدة عن أذهان العرب في غرب القارة الافريقية، إذ أدهشني أحد الشباب المؤسسين في مبادرة "موطن" بقوله: تقصد من حديثك برلمانكم القوي في العام 89 وما تبعه من حضور سياسي واجتماعي للمعارضة والحكومة والمجتمع ككل تشهد به أوساط النخب العربية قبل الاردنية، مشددا على أنه سمع عن هذه التجربة الاردنية الثرية من طلاب أردنيين عندما درس أخوه الكبير في جامعة اليرموك قبل نحو عشرين عاما.
تخطيت دهشتي، ونقلت الحوار الى المربع الموريتاني بالقول إن سبيل تحقيق التحضر في موريتانيا لا يكون الا بالتزام كل الموريتانيين بالنظام العام والقانون وتجاوز القبيلة وباديتها الى التعامل الذكي مع مجتمع مدني حيوي، فلا معنى لوجود الاشارة الضوئية اذا كان السائقون في بلادكم لا يحترمونها، ولا جواب منطقيا لديّ إزاء عدم انارة معظم شوارع نواكشوط، وأستغرب كثيرا من عدم وجود بنية تحتية كفؤة للعاصمة، وأبعد من ذلك، فإن النسيج المجتمعي لديكم، الذي يضم البيض والزنوج، يجب أن ينصهر في سياق قانوني ومؤسسي عنوانه الرئيسي المواطنة وفقا للمفاهيم المدنية الراقية وليس لاعتبارات القبيلة أو هوية فئة من السكان على حساب أخرى.
وانتهى الحوار مع هؤلاء الشباب، الا أن صوت الامن يعلو عندما يخبو صوت السياسة، وإن الهويات الفرعية والمناطقية تزداد طعنا للمجتمعات عندما تفشل الحكومات في تحقيق إصلاح سياسي يبني الدولة ولا يهدمها وينمي الفرد ضمن منظور قانوني ومؤسساتي وسياسي لا مكان فيه للعصبية أو الحاراتية.
تحتاج البلاد العربية كلها إلى إرادة سياسية جادة لترسيخ النقلة -التي لم تأت بعد- لشكل ومضمون الدولة كما يجب وفقا لمفاهيم ومضامين جامعة لا انقسام فيها، وبالاستناد إلى هويات وطنية تجمع ولا تفرق، وهذا هو دور السياسيين الحقيقي، حتى لا نضع أيدينا على قلوبنا كلما حدثت مباراة أو لجأنا الى صناديق الاقتراع أو سعينا الى نقل عاصمة عربية -في الالفية الثالثة للميلاد- من البداوة الى التحضر.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي