اعتدنا أن يكون الارتجال سيد الموقف في معظم ملامح الأزمات الاقتصادية وما يرافقها من حلول.
حتى إن آفاق الحل ومحاولة تخليق حالة إدارية أو اقتصادية جديدة وغيرها من عوامل التغيير المرحلية يصطدم حاليا بأخطاء وخسارات لا تعود علينا أو على الاقتصاد إلا بالخيبات.
من منّا ضد إعادة هيكلة القطاع العام؟، ومن منّا لم يلمس تخبطا وازدواجية في المعايير التي تحكم عمل الكثير من مؤسسات الدولة سواء على مستوى الوزارات والمؤسسات الحكومية أو تلك المستقلة التي باتت هدفا لأي إصلاح إداري مرتقب؟
 ولكن هذا الإصلاح يجب أن لا يكون على حساب الموظفين، ولا أن ينتقل إلى الشارع الذي يتعطش يوما بعد يوم للمزيد من حريته وكرامته ولقمة عيشه وعيش أطفاله.
بالأمس القريب ملأ المعلمون وبعدهم الأطباء الفضاء الأردني صراخا، طلبا لتحسين أحوالهم بعد أن عاثت فيها حكومات وحكومات خرابا، واليوم انتقل المشهد إلى الموظفين الذين طالتهم يد الهيكلة التي تزعم الحكومة تنفيذها، وحتى لا تكون إعادة الهيكلة بوابة للفوضى لا بد من تسليط الضوء على جملة اعتبارات ذات صلة وثيقة بالإصلاح الإداري والاقتصادي.
من الخطأ بل من العيب أن يتم العبث بمؤسسات أنجزت الكثير للبلاد في الداخل والخارج وضخت عشرات الملايين سنويا إلى خزينة الدولة وتدار منذ وقت طويل بطرائق أقرب إلى الحوكمة والعقلانية.
 ذلك العبث قد ينهي سمعة تلك المؤسسات وكذلك دورها، ولعل هيئة الأوراق المالية نموذج لاختبار الفرضية السابقة، فقلعة الرقابة تلك تحظى بسمعة دولية مرموقة، وهي مثال يحتذى عربيا وتسعى دول مجاورة لتقليد مسار العمل فيها، وهي أيضا التي ترفد خزينة الدولة بما لا يقل عن 50 مليون دينار سنويا وقدمت للخزينة أكثر من 276 مليون دينار خلال السنوات الخمس الماضية.
ماذا يعني إلغاء النظام الخاص برواتب وأجور وصناديق موظفي الهيئة ضمن مخططات إعادة هيكلة القطاع العام، وهم الذين يقومون على عمل في غاية الدقة والأهمية، وأزعم أنني أعرف جل موظفي مؤسسات الرقابة في سوق رأس المال (هيئة الأوراق المالية، بورصة عمان ومركز الايداع) وعددهم لا يتجاوز 250 موظفا.
أعرف صدقهم ومحبتهم للعمل والإنجاز وافتخارهم بأي تقييم متقدم يحصل عليه الأردن بفعل جهدهم الرقابي، وأعرف أيضا أنهم ساروا في مخطط طموح وضعته إدارة حكيمة وثابرت لتحقيقه بهدف تطوير قدرات شباب أردني أخلص لمهنته وصولا إلى سوق مالية كفؤة، حتى باتت هيئة الأوراق المالية قصة نجاح في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفقا لخبراء أجانب وعرب.
بعد كل هذه السنوات تأتي الحكومة لتعاقب جيلا من الشباب المميز الذي نجح في الإدارة وتقول له" "أخرج إلى الشارع للصراخ بعد أن هددنا راتبك ومعاشك وصندوق ادخارك"، بل ودفعت الكثير منهم إلى تقديم استقالاتهم، ومثلهم آخرون في مؤسسات وشركات ناجحة يجب أن يتم تعزيز نجاحها ومكافأته لا معاقبته.
والحديث يتركز حول هيئة الأوراق المالية لأن من الخطأ العبث بجسم رقابي معني بكل الاقتصاد وجزء كبير من الثروة الوطنية.
 وكنت قد تابعت تطور السوق منذ كان الوسيط يكتب على السبورة – في تسعينيات القرن الماضي - حتى وصلنا اليوم إلى التداول عن بعد، وما رافقه من أنظمة شفافة للرقابة وتعزيز الشفافية في سوق تدير أموالا بحجم يفوق ثلاثين بليون دينار، وهي ثروة وطنية لا يستهان بها وصمدت في كل الأزمات السابقة بسبب قانونية عمل الهيئة وقدرة إدارتها على تجنب ويلات وتبعات الكوارث الخارجية، فلماذا تعاقب الآن؟ ويعاقب أبناؤها؟  
إضراب المعلمين، وبعدهم الأطباء، كان بمقدرة الحكومة مواجهته، أما استقالات موظفي هيئة رقابية تدير سوقا كبيرة فهو أشبه بالانتحار بالنسبة للدولة التي دفعت هؤلاء الشباب المهنيين والمدربين جيدا والمؤهلين للإعتصام.
 وللحكومة أن تتخيل ما سيحدث لسمعة الأردن خارجيا بعد أن تتوقف فيها البورصة ويتوقف دور الرقابة لا سيما بعد أن لجأ موظفو الهيئة إلى الخيار الصفري!.
 والسؤال الأهم: هل يعقل المساس بجهاز رقابي بمستوى الهيئة لمجرد أن وزيرا في الحكومة "أراد" ذلك من دون أن يجري حوارا معمّقا حول أبعاد هذه الهيكلة مع ذوي الشأن أو إداراتهم؟
موظفو هيئة الأوراق المالية يستحقون أوسمة لا عقوبات، وإذا كان لدى الحكومة أسلحة تشهرها، فليكن ذلك في وجه من أفسد وتعثر وخسر لا في وجه من قدم للأردن السمعة العطرة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي