قال عنها المؤرخون إن الإنسان قصدها منذ العصور الحجرية القديمة لكثرة ينابيعها التي شكلت مستقرا ومعبرا للقبائل العربية المهاجرة، فكانت الطفيلة بجداول المياه فيها وشجيرات الدفلى والارض الخضراء التي يغطي القصب مساحاتها ملاذا للمهاجرين كما وصفها رحالة القرن التاسع عشر.
وفي عمق الجنوب ترسم بساتين الحجازية والشامية لوحة خضراء للجذب في معان، وروى السويسري بيركهارت قبل قرنين من الزمان أن "أهالي معان يعتبرون بلدتهم مركزا اماميا للمدينة المنورة" فضلا عن كونها ممرا للحجاج والتجارة ومستقرا للكثيرين، ويوجز بيركهارت بعبارة لافتة "معان بلد الأحرار"، فيما يروي القلقشندي في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا في القرن الرابع عشر أن الشوبك كانت تصدر قصب السكر، وفي المقابل ظلت حضارة الانباط في البتراء ملمحا للمدنية والرقي والتخطيط وتروي فصلا رئيسا من فصول التاريخ القديم وذكاء أجدادنا العرب.
اما الكرك التي ذكرها ابن بطوطة في "تحفة النظار في غرائب الأمصار" فقد كانت المدينة المحصنة التي حمت القدس وهي مملكة مؤاب، التي ربطت الشرق بالغرب وظلت الجغرافيا والانسان فيها موئلا للتميز في كل تفاصيلها اذ كانت موطنا للحضارات.
تلك الصورة الجميلة في التاريخ القديم والحديث لمدن الجنوب الأردني تقابلها صورة معاصرة الانسان فيها اقرب الى التهميش والجغرافيا الى الاطلال، نعم الى الاطلال، فعيون الماء التي تغنى بجمالها الرحالة جفت والجغرافيا الخضراء استحالت الى جرداء، والمدن التي جذبت الكثيرين امست طاردة وتعاني من كل اشكال الفشل وسط محاولات رسمية يائسة لإدامة الحياة فيها وفق نسق شكلي وتجميلي لكنه حتما مكشوف لكل ذي بصيرة.
حتى لا نغرق في التاريخ الجميل ونعود الى واقعنا المقلق، فان المؤشرات الاقتصادية وواقع حياة الناس اليوم في اقليم الجنوب يشيران إلى عزلة لا ينظر اليها ببراءة من قبل ابناء الجنوب، والا فلماذا تستحوذ عمان على 91 % من رؤوس الاموال المسجلة في الشركات ؟ بينما تتنافس محافظات الجنوب على 1 % فقط من اجمالي رساميل الشركات وفقا لنشاطات اقتصادية مختلفة، وهنا لا بد من الاعتراف بأن الحكومات المتعاقبة بما فيها الحكومة الحالية فشلت في تحقيق التنمية وفي حل تحديات الديمغرافيا في الجنوب الشاسع مساحة الضيق تنمية وفرص حياة وهي ذاتها الحكومات التي سعت وما تزال لأن تكون عمان هي الاردن، وتستغرب الان غضبة الجنوبيين وسخطهم من أداء رسمي اثخن في تهميشهم وحول قراهم الى اطلال يزورها المسؤولون لنصف ساعة كل عام ويلتقطون الصور التذكارية أمامها ثم يعودون أدراجهم الى فللهم الفخمة في العاصمة المحظوظة.
صحيح ان دافع الضريبة في عمان ولكن ذلك لا يعني ان تكون عمان هي الاردن وتحرم الاطراف من الحظ الذي يرافق المركز، وهنا لا بد من الاعتراف بأن محاولات التجميل والترقيع و"الفزعات" التي يقوم عليها المخططون وهم يتطلعون لانقاذ الجنوب قد اثبتت فشلها الكامل، وان تسمية مدينة ما او منطقة ما بانها تنموية لا يعود بالخير العميم عليها، ويترافق مع هذا الاعتراف نتائج مؤداها ان كرامة الجنوب تأبى ان تتحول عائلاته الثكلى بالفقر الى مركز لتقديم الصدقات والاغذية المجمدة التي "تجود بها نفوس ابناء الجنوب ممن اعتلوا كراسي المنصب" واكتفوا بارسال الصدقات بعد ان اخفقوا في ادارة البلاد كلها والجنوب على رأسها.
استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الاخير الذي كشف تسجيل ادنى تقدير للثقة بالحكومة من قبل ابناء الجنوب، يدق ناقوس الخطر ويستوجب في تقديري ان ينظر الى الجنوب بصفة خاصة والاطراف بصفة عامة نظرة جديدة، تقود في مستقبل قريب الى تنمية حقيقية يلمس ثمارها ابناء الجنوب الذين صبروا على قسوة الصحراء ولكنهم لا يقبلون بأن تتحول مساكنهم الى اطلال، وشخوصهم الى حالات انسانية تستحق الدعم والمساعدة بوصفهم ضمن شريحة "الأقل حظا".
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد صحافة حسن احمد الشوبكي