قال لي الأستاذ الدكتور كرام النمري، عميد كلية الفنون بالجامعة الأردنية، وفنان النحت الأردني المشهور، إنه يطمح لو صار حال الثقافة والفنون في عمّان كحالها في مدن بلدان متقدمة؛ تُخصص نسبة قليلة من الرسوم والضرائب لصالح الثقافة والفنون، فتكفيها شر التعثّر، وتضمن للمجتمع منتجات ثقافية وفنية يحتاجها في حياته الروحية، جنباً إلى جنب مع ما توفره له من مفردات الحياة المادية.
لا ريب أن مطلب أستاذنا الكبير هو مطلب حق. غير أن علينا الأخذ بالاعتبار أن المسألة لا تتمحور حول توفير المال اللازم للثقافة والفنون وحسب، بل قبل ذلك حول طريقتنا في توجيه ذلك المال وإنفاقه حال توافره، استناداً إلى تجاربنا السابقة بالخصوص!
لقد جرت العادة، أن المطالب المتعلقة بإنفاق ذلك المال، ومن ثم الطريقة التي ينفق بها فعلاً، لا تمضي في طريق إصلاح ثقافة المجتمع بهدف تنميتها، كما يمكن أن يُفترض منطقياً في مجتمعاتنا العربية الساعية للنهوض الحضاري، بل على العكس: فإن طريقة إنفاق ذلك المال تخضع لثقافتنا المتأخرة السائدة، فتتحكم به حتى ينتهي الأمر إلى إهداره من دون جدوى تنموية، فكيف بعدها نتساءل: لماذا تتردى ثقافة المجتمع باتجاه العنف والعصبيات والفساد البنيوي، ولا تفعل الثقافة فيه مفاعيلها؟!
هكذا، وقبل أن يدخل "الملف الثقافي" في بلدنا أزمته المالية الراهنة في السنوات الأخيرة، نتيجة تغيّر الظروف الاقتصادية، فإن إدارتنا لإنفاق المال المخصص للثقافة، كانت تخضع لمفردات الثقافة المتأخرة بدل أن تعمل هي على إخضاع هذه الثقافة وتهذيبها. ولأنها كانت تخضع لها، جرى إنفاق المال الثقافي بعيداً عن "مهمة التنمية"، أي من دون خطة استراتيجية تضع التنمية الثقافية هدفاً لها، فتدفع المجتمع نحو احترام القانون، واحترام الحق في الاختلاف والتنوع، والحرية، وغيرها من القيم، فضاع المال -في أحسن الأحوال- في مهمات الترفيه الذي ينتهي أثره سريعاً ولا يبقى، وضاع -في أسوأ الأحوال- في مهمات "التنفيع" الذي يظهر أثره على الأشخاص المنتفعين، ولا يتجاوزهم!
والحقيقة أن مهمات الترفيه والتنفيع جرت هي الأخرى من دون خطة استراتيجية! بل بالارتجال والعشوائية التي هي، بطبيعة الحال، جزء من تلك الثقافة المتأخرة التي تشمل كل ما يعاكس مبادئ القانون والعمل المؤسسي.
اليوم، وقد بات المال المتاح للثقافة محدوداً ويسيراً، في مختلف القطاعات الأهلية والخاصة والحكومية، كيف يمكن لنا أن نقنع أنفسنا بأننا قادرون على إنجاز ما هو مختلف؟ وكيف لنا أن نقنع الآخرين بأن إنفاق المال على الثقافة والفنون يصب في جوهر التنمية التي يدوم أثرها في المجتمع، لا في فوائد ضيقة التأثير ومحدودة الأثر؟ بالضرورة، لا بد من صياغة خطة وطنية استراتيجية تجعل الثقافة والفنون ومنتجاتها، مدخلاً للتنمية، وتستهدف التأثير في السلوك الاجتماعي، الفردي والجماعي. وهذا يستدعي تغيير "الخطاب الثقافي" السائد الذي يجعل المنتجات الثقافية هي غاية التمويل، بدل أن تكون وسيلته من أجل تحقيق التنمية. والمعنى أن مطلب التمويل سيكون محقاً أكثر لو اتضحت الأهداف التنموية الاستراتيجية المرتجاة في المجتمع من وجود المنتجات الثقافية، وليس فقط ماهية تلك المنتجات الثقافية، وأهلية القائمين عليها من مثقفين وفنانين، وذلك لأن التمويل سيتكرس ساعتها باعتباره موجهاً للمجتمع من خلال هؤلاء المثقفين والفنانين.
ومن فائض القول إن خطة التنمية من خلال المنتجات الثقافية والفنية، لا يجوز أن تنطوي على أدلجة تلك المنتجات أو تحميلها خطاباً مباشراً فظاً، فيكفي على سبيل المثال أن تتولى الفنون البصرية مهمة رفع الذائقة البصرية لدى المتلقين، ليكون لها دورها في الانتقال من ثقافة مجتمعية تقوم على الإكراه، إلى ثقافة تقوم على الحريّة!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد