يبدو أن اقتراب وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي، من الانتقال إلى سدة الرئاسة المصرية بعد نحو شهرين من الآن، قد فتح شهية المثقفين والمسيسين للبحث من جديد في المرحلة الناصرية، وانعكاساتها السلبية والإيجابية على مصر والعالم العربي، بخاصة أن أنصار السيسي يحبّون تشبيهه بعبدالناصر، من حيث أنه زعيم قوي وذو شعبية، كما فعل الراحل أحمد فؤاد نجم قبل وفاته؛ كما أن خصومه يفعلون الشيء نفسه، عبر قياس عدائه للإخوان المسلمين، بعداء عبدالناصر لهم.
لكن الملفت أن "محاكمة" حقبة عبدالناصر، من هذا المنظور، إنما تجري بمفاهيم هذه الأيام ومقاييسها، لا بمقاييس عهد عبدالناصر الذي يبتعد عنّا نحو نصف قرن من الزمان. هكذا، تستعمل "الديمقراطية" معياراً رئيساً في "محاكمة عبدالناصر"، التي هي في الحقيقة محاكمة مسبقة لما هو مقبل من أيام في عهد السيسي. وذلك أمر مفهوم من زاوية أن خصوم السيسي يأخذون عليه انقلابه على رئيس منتخب "ديمقراطياً"، فيكون عندهم ضداً للديمقراطية، كما هو عبدالناصر عندهم.
غير أن هذا القياس المستعجل للمستقبل على عهد عبدالناصر، من قبل أنصار السيسي ومن قبل خصومه على حد سواء، سيكون مُخلّاً بالحقيقة من دون شك. فحقبة عبدالناصر ما تزال تمثل أهم مراحل التاريخ العربي المعاصر على الإطلاق، بسبب امتداد أثرها إلى الدول العربية، بخاصة الكبيرة منها، بينما ما يزال عهد السيسي المقبل غير واضح المضامين ولا الأثر، هذا ناهيك عن اختلاف المعايير بين ثورة قامت في زمن الانقلابات العسكرية في خمسينيات القرن العشرين، وأخرى في زمن الثورات الشعبية ضد الاستبداد، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. 
لذا، فإن تحليل عهد عبدالناصر ابتداءً من مسألة الديمقراطية والحريات، سواء بالقول إنه كان ديمقراطياً أو كان دكتاتوراً مستبداً، فيه استغراق في "التفاصيل" غير الأساسية في التجربة الناصرية (وإن كانت أساسية في زماننا هذا)، وتجاوز على الحالة التاريخية الرئيسة التي شكّلها عهد عبدالناصر، والمتمثلة في إفرازه نظاماً سياسياً عربيّاً مستقلاً حقاً، يتصرف من منطلق قناعاته بمصالح الأمة. ليس معنى ذلك الجزم بأن قناعاته، ومن ثم قراراته، كانت مصيبة دائماً؛ فمن حق الجميع أن يتفقوا معه أو أن يختلفوا، ومن حق الجميع أن يمارسوا تجاهه "الحكمة بأثر رجعي"!
من هنا، يكون منطقياً أن يبدأ الحديث عن تقييم عهد عبدالناصر من ثورة العام 1952، لا من سلوك النظام الذي حكم به الدولة فيما بعد. فقيمة عبدالناصر الحقيقية ليست في نظام حكمه، بل في أدائه "مهمة مستحيلة" في يوليو 1952. أما بعد تنفيذه تلك المهمة المستحيلة، وتحوله إلى زعيم نظام، فقد أصبح رئيس دولة يمكن تأييد ممارساته ويمكن معارضتها، حتى وإن كان زعيماً غير عادي، ما يزال كثير من العرب يعدونه رمزاً حتى اليوم. فممارسة "الرئاسة" هي من باب التفاصيل التي تحتمل الإصابة كما ارتكاب الأخطاء، لا من باب الأفعال المبدئية التي بها يُصنع التاريخ الجديد.
هكذا فإن الذهاب مباشرة لبحث مدى "ديمقراطية" عبدالناصر، من باب الإدانة المسبقة لما سيكون عليه عهد السيسي، فيه إخلال بالتاريخ، وإساءة للمستقبل. والأولى، أن يجري تقييم "زمان السيسي" بمعزل عن رمزية عبدالناصر، بمعنييها: الإيجابي عند أنصاره، والسلبي عند خصومه. لكن الذين يقدمون على كل تلك المقارنات لا يفكرون في الحقيقة، وإنما في استثمار الماضي وتوظيفه من أجل مصالح الحاضر، ومكاسب المستقبل، إلا أنهم في الغالب سيضيعون الحقائق في الثلاثة معاً!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد