نشهد في كل موسم لامتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، كهذه الأيام، حملات غير منظّمة، إعلامية ومجتمعية، ضد الامتحان الذي تجريه وزارة التربية والتعليم لجميع طلبة الصف النهائي في الثانوية، على اختلاف مدارسهم، الحكومية والخاصة؛ وتكون نتائجه، من ثم، مدخلاً لقبول هؤلاء الطلبة في الجامعات.
الاحتجاجات على "التوجيهي" كانت فيما مضى تتمحور حول وصفه بأنه "غير تربوي"، وصولاً إلى القول إنه لا يعبر بالضرورة عن كفاءات الطلبة، وإنه لذلك، لا يجوز أن يكون حكماً في التخصصات الجامعية التي يدرسونها. أما في السنوات الأخيرة، فقد بات ثمة اعتراض جديد على الامتحان، مفاده توظيف بعض الطلبة وغير الطلبة، برامج ووسائل الاتصال الحديثة، مثل الـ"واتس آب"، في الغش وتهريب الأسئلة والإجابات، بشكل أفقد الامتحان سريّته وهيبته. ليصل المعترضون أخيراً إلى ذلك المطلب نفسه: عدم جواز أن يكون "التوجيهي" دليلاً للقبول في الجامعات.
بعض الاحتجاجات على "التوجيهي" يمكن تفهّمها، بخاصة تلك التي تختص به كامتحان. أما التذرّع بـ"الغش" واستخدامه التكنولوجيا، فليس منطقياً؛ لأن الأولى محاربة الغش ومرتكبيه لا محاربة الامتحان. ولو كان وجود التكنولوجيا سبباً مقنعاً لوقف "التوجيهي"، لكان المنطقي أن تتوقف الامتحانات الدراسية في بلدان العالم التي ابتُكرت فيها تلك التكنولوجياً!
المدهش أن الاحتجاجات على "التوجيهي" التي تنتهي دائماً إلى المطالبة بالفصل بينه وبين القبول في الجامعات، والدعوة إلى اعتماد مدخل آخر للقبول؛ كإجراء امتحانات قبول جامعية في كل تخصص، أو ترك الأمر للجامعات لتقرر ما يناسب تطوير عملها، وتحسين مستوى خريجيها.. أنها تتذرّع بما هو موجود في دول العالم المتقدمة في مسألة القبول في الجامعات، من حيث تعهّد الجامعات بالقبول من عدمه، وبتحديد الاختصاص الدراسي للطالب، أو من حيث سماح بعضها لكل من يرغب بدخول التخصص الذي يريد، ثم يكون الحكم على استمراره في الدراسة أو فصله من ذلك التخصص، هو مقدار تحصيله فيه. وينسى أصحاب تلك الدعوات تلك الحقيقة الساطعة التي لا يحجبها غربال، وهي أننا نعيش ظروفاً وثقافة اجتماعية، تختلف عن السائدة في تلك الدول، وهي تنعكس على مسألة القبول، فلا يجوز تجاهلها أو التغاضي عنها.
هكذا، فإن بعض منتقدي "التوجيهي"، إنما ينظّرون في الفراغ، لأنهم لا يأخذون في اعتبارهم هذه "البيئة الثقافية" التي يجري فيها الامتحان عندنا. إن حسنة امتحان "التوجيهي"، لو نجحنا في العودة لمنع ممارسات الغش (والنجاح في ذلك ظهرت بوادره فعلاً)، هي أنه يحيّد عنصر "الواسطة" في مسألة الحكم على الطلبة، وإظهار التمايز بينهم؛ فهو يُخضعهم جميعاً لـ"مسطرة قياس" واحدة، ثم لآلية توفّر النزاهة في تصحيح الإجابات، كون المصحح لا يطّلع على اسم الطالب. وهكذا، يتحقق العدل بين الجميع على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، ونفوذ عائلاتهم. أليس طبيعياً أن نقول "يعيش التوجيهي"، ما دام يقاوم الواسطة ويهزمها؟!
أما لو صار أمر الامتحانات إلى "مؤسسات" متناثرة هنا وهناك، أو إلى أفراد، فإن الواسطة ستدخل من الباب والشُبّاك، وستتحكم الأهواء الشخصية بأمر علامة هذا وعلامة ذاك، ثم قبول هذا أو قبول ذاك، سواء أجرت المدارس امتحانات طلبتها بدلاً من الوزارة، أو الجامعات في بداية السنة الجامعية الأولى أو نهايتها.
قد يقول قائل إن التطور السريع للتكنولوجيا يجعل السيطرة على الغش في الامتحان أمراً صعباً. وقد يقول آخر إن النظام الحالي للقبول في الجامعات، لا يضمن العدالة التامة، بسبب الاستثناءات التي فيه. كل ذلك صحيح طبعاً، لكن تلك معارك أخرى. ولو ألغينا "التوجيهي"، فلن يمكن السيطرة على الغش في الامتحانات الجديدة، فيما ستصير الاستثناءات في القبول الجامعي هي الأساس!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة سامر خير أحمد جريدة الغد