وقعتُ في أحد أشهر رمضان، قبل سنوات، ضحية واحدة من التمثيليات التي يقوم بها محترفو "الشحذة" والاستجداء، وبأساليب مبتكرة تتفنن في ترقيق قلوب الناس، مستغلين الرقة الفائضة التي تستولي على قلوبهم في رمضان! 
ففي منطقة جبل الحسين، كان طفل يدعو منظره للرثاء، يجلس على الأرض باكياً وقد تناثرت أمامه حبات من العلكة وأكياسها الفارغة، بما يوحي بأنها سقطت منه بدون قصد، أو بفعل فاعل. وبالتالي، فإنه فقد مصدر الرزق الذي يعيل به أسرته التي تنتظره. 
كان الطفل رث الثياب، ويبكي بحرقة عجيبة، حتى لا يخيل للمرء أبداً أنه يمثل! تقدمت منه وسألته عمن رمى العلكة التي يبيعها أرضاً، فقال لي إنهم الأولاد، بينما استمر بالبكاء والشهيق. فسألته عن ثمن العلكة المطروحة أرضاً، فقال لي رقماً دقيقاً، هو: ستة دنانير وأربعين قرشاً. فما كان مني، وأنا المتأثر بالمشهد، إلا أن أخرجت المبلغ من جيبي، متمنياً أن أكون أرحته من همه، وساعدته على العودة بالمال إلى أسرة تنتظره. 
لا بد أن هناك من كان ينتظر الصبي بالغلة. ففي اليوم التالي، وفي الوقت نفسه تماماً، كنت أمر من المكان نفسه، فشاهدت ذلك الطفل بالمشهد نفسه: العلكة نفسها على الأرض، وحالة البكاء الشديد نفسها، والجلسة التي توحي بأن مصيبة ما استولت على الصبي، ما يستدعي عطف الناس وتأثرهم!
وكما هي الحال في أشهر رمضان، فإن يوم الجمعة يعد هو الآخر موسماً أسبوعياً لحث مرتادي المساجد في صلاة الجمعة على الالتفات لحاجات الناس المعوزين. وغالباً، يتوزع طالبو المساعدة على أبواب مساجد الجمعة بين الحالات التالية:
1 - رجل عاجز، يجلس على سجادة صلاة، ويضع إلى جواره ورقة تثبت نداءاته حول حاجته لإجراء عملية عاجلة عالية التكاليف. ومثل هذا الرجل يستخدم عادة عبارة "أخوكم العاجز" لوصف حالته.
2 - رجل سليم، يقف بباب المسجد، ويرفع ورقة شبيهة بتلك التي تجاور الرجل الأول، لكنها هنا تقول إن ابن ذلك الرجل السليم هو الذي يحتاج العملية العاجلة التي يعجز عن توفير تكاليفها، وإلا فإنه سيفقد ولده، فلذة كبده!
3 - امرأة تحمل على كتفها طفلا صغيرا، والأفضل أن تكون طفلة أنثى، وهي تدعو للمصلين أن يوفقهم الله إن هم تبرعوا لـ"هاليتيمة".
4 - أطفال دون الخامسة، يرجون من المصلين العطف والمساعدة بعبارة "يا عمو، مشان الله".
5 - امرأة مرتبة الهندام، تحمل إكسسوارات غير قيمة؛ من مثل براويز صغيرة مكتوب عليها آيات قرآنية أو عبارات البسملة، أو ميداليات عليها آيات قرآنية. وهي تبيع هذه الإكسسوارات التي لا تساوي قيمتها في السوق أكثر من بضعة قروش، بدينار واحد على الأقل، تحت شعار "يا خوي أجبرها عني كرامة لهلأيتام" (أين هم الأيتام المفترضون؟ المرأة تحاول أن توحي أنها تركتهم في البيت).
6 - رجال يتحلقون حول صندوق خشبي، يحملون ورقة بيضاء عليها كلام مطبوع، بلا أختام أو تواقيع، تكون عادة "مجلتنة"، يدعون الناس للتبرع لبناء مسجد في منطقة ما بعيدة؛ غالباً في إحدى القرى التي لم يسمع باسمها أي من المصلين قبل ذلك. وهؤلاء عادة ما يلقون منافسة من "لجنة إعمار المسجد" الذي يخرج المصلون منه؛ إذ عادة ما يدعو إمام المسجد لعدم التبرع لغير "مسجده"، بحجة أنه أولى، وأن الغرباء الواقفين بالباب غير معروفين.
ألا يبدو واضحاً ضرورة الخروج بمثل هذه المواقف عن إطار الدعابات والقصص الطريفة، لتنال معالجة حقيقية وناجعة، ما دامت أعداد كبيرة من الناس تقع في كل جمعة وفي كل رمضان، ضحية لهؤلاء "المحتاجين"؟

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد