أليس محيّراً أن منظومة الأخلاق التي تتحكم بمجتمعاتنا العربية المعاصرة، تركّز على ما هو خاص في حياة أفرادها، ولا تلتفت كثيراً إلى ما هو عام؟ المنظومة الأخلاقية تتحكم بسلوك الفرد في حياته الخاصة؛ فتتدخل في لباسه وهندامه، وطعامه وشرابه، وخصوصياته اليومية، وتمنح الآخرين الحق في مراقبتها والتعليق عليها، ومن ثم تقرير مدى "أخلاقية" المرء من عدم أخلاقيته. لكن هذه المنظومة لا تبدو معنية بسلوك الفرد في الحياة العامة، تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه؛ فلا يضيره أن يوقف سيارته في وسط الطريق معطلاً حركة السير، أو أن يلقي القمامة في الشارع العام، أو أن يكسر مقعداً في الحديقة العامة؛ لن يقول عنه أحد ساعتها إنه بلا أخلاق!
هذه "المنظومة" هي التي جعلت الجرأة على المال العام، لسنوات طويلة، بمثابة "بطولة"؛ فما هو عام مستباح، ما دام المرء يلبس ويأكل ويتصرف كما يقرر المجتمع، وفق "العادات والتقاليد والأعراف"، التي ليس منها طبعا احترام القانون، وحماية المال العام والممتلكات العامة من التخريب أو الهدر، بما فيها من ماء وكهرباء وطاقة، فتلك مفاهيم طارئة قياساً إلى ما هو معمول به من منظومة أخلاقية محورها السلوك الفردي في الحياة الخاصة.
حتى ما هو مشتق من الدين في هذه المنظومة الأخلاقية، يتناسى ما قرره الدين من أخلاق تجاه المجتمع، ويركز على ما هو فردي. فهو يقرر أن على المرء أن يصلي ويصوم ليعتبر فاضلاً، حتى لو أزاح الأوساخ من شرفة بيته إلى شرفة جاره في الطابق الذي يليه! ولن يكون فاضلاً إن ترفّق مع جاره، وتعامل بالفضيلة مع الناس، إن لم يكن يصلي ويصوم! هكذا تتناسى تلك المنظومة الأخلاقية أن المسائل الفردية في الدين هي علاقة بين المرء وربه، فيما أن المسائل العامة، التي تجعل "الدين المعاملة"، هي علاقة بين المرء والناس، فما الذي يستفيده المجتمع لو أصلح واحدنا علاقته مع ربه، وأفسد علاقته بالناس: كالتاجر الذي يصوم ويصلي، لكنه يغش؟!
ما دامت هذه حال منظومتنا الأخلاقية، التي توجّه ثقافتنا وحياتنا اليومية، فهل يكون غريباً أن لا يجد العمل العام جمهوراً ومتطوعين؟ هل يكون غريباً أن لا ينضوي الناس في الأحزاب السياسية، التي هي مؤسسات "عامة"، إن لم يضمنوا منها مكاسب فردية "خاصة"، فتتحول أخيراً إلى هياكل شكلية فارغة المضمون؟ وهل يكون غريباً أن تتوقف فاعلية الجمعيات والمنظمات والهيئات التطوعية، إن غاب رئيسها أو الشخص الواحد النشيط فيها، ولا تجد بين مئات أو عشرات الأشخاص المسجلين في كشوفاتها باعتبارهم أعضاء فيها، من يتطوع ويضحي لتفعيلها وتنشيطها؟
لا يبدو ذلك غريباً؛ فالثقافة السائدة تمجّد ما هو خاص وترعاه، وتتناسى ما هو عام، بل وتنكره ولا تعترف بوجوده، فكيف سيهتم واحدنا ساعتها بما هو عام، إن لم يحقق له فائدة في ما هو خاص، تماماً كما تفعل جمعيات إعانةٍ وإغاثة للفقراء والأيتام التي تنشط في مواقع معينة، لتصير خزاناً انتخابياً لها، أو كما تفعل هيئات تتبنى قضايا المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية، لتحصل بحجتها على "تمويل أجنبي" تجني منه ربحاً وفيراً!
المسائل مترابطة إذن: إذا أردنا دولاً من المواطنين، يتصرفون على أساس أداء الواجبات والحصول على الحقوق، في مظلة من القانون والمؤسسية، علينا أولاً أن نكرّس منظومة قيمية تحكم على مدى أخلاقية المرء في ضوء سلوكه تجاه الآخرين، وتجاه ما هو عام ومشترك بين الناس، لا في ضوء حياته الخاصة وسلوكه تجاه ذاته، أو تجاه الله!
جريدة الغد
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة سامر خير أحمد جريدة الغد