ما الذي سيغيره قيام ثورات "الربيع العربي" إزاء ذلك الإحساس العميق بالأزمة الحضارية، والذي ظل يتملك معظم المفكرين والمثقفين والمشتغلين بالعمل العام في العالم العربي؟ هل يمكن أن يبعث "الربيع العربي"، باعتباره نقطة تحوّل تاريخية، تصميماً جماعياً على صياغة وتنفيذ "برنامج عمل" من أجل النهوض الحضاري الحقيقي، يصوغه مفكرون وخبراء، وينفّذه سياسيون مخلصون؟
علينا تذكر أن ذلك الشعور بالأزمة، والسعي إلى إيجاد مخرج حضاري منها، ظل -قبل قيام ثورات "الربيع العربي"- يترافق مع سجال فكري ونظري نشط حول التوجهات السياسية والاجتماعية المطلوبة لإنجاز المهمة. وربما تكون مراجعة تلك السجالات التي كانت تتحدث عن "الأمل"، مسألة مهمة حين نبلغ مرحلة "العمل"!
أستعير هنا مما تضمنه كتاب صدر في العام 2008، مثالاً على تلك السجالات. يحمل الكتاب عنوان "الإسلاميون: سجال الهوية والنهضة"، غير أنه في الحقيقة لا يختص بـ"الإسلاميين" وحدهم، بل يرصد مواقف المثقفين العرب المنتمين لمختلف التيارات الفكرية؛ حيث يتضمن سجالات شارك فيها كبار المفكرين والسياسيين العرب، من مشرق العالم العربي إلى مغربه، وكانت جرت على صفحات: "المحايد" السعودية، و"الشرق الأوسط" اللندنية، و"الوطن" السعودية. وقام بإعداد الكتاب، الصادر عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، الصحفي السعودي نواف القديمي، الذي كان تولى تحرير تلك السجالات، وكتابة مقدماتها.
تؤشر تلك السجالات الحادّة على المواقف المتباينة داخل مجتمعاتنا، والمستمرة بطبيعة الحال بعد قيام ثورات "الربيع العربي". ولأن نهوض الدول رهن بنهوض المجتمعات، فسنضرب مثالاً اجتماعياً محضاً على تلك التباينات، والتي تتماثل فيها قضايانا المتعددة، اجتماعياً واقتصادياً سياسياً.
ففي موضوع دور المرأة العربية، كتب القديمي أن البعض يرى في الخطاب السائد حول قضايا المرأة، كمّاً من التأزمات، لكونه يجعل "حماية المرأة" محوراً رئيساً لمجمل مفرداته، الأمر الذي يُفقد المرأة في كثير من الأحيان خاصية التفاعل والاندماج بالمجتمع، ويجعلها مجرد "إلكترونات" تدور في مجال الرجل، على مستوى الأفكار والمواقف والممارسات والأفق الذهني والقيمي. في المقابل، فإن ثمة من يرى أن قياس فاعلية المرأة في المجتمع، من منطلق المساواة الكاملة مع الرجل، يحمل الكثير من التجني والانحياز، لكونه يتجاهل التمايزات والفروقات البيولوجية والوظيفية بينهما.
هنا، علّقت الأكاديمية السعودية نورة السعد معتبرة أن الخطاب الإسلامي الموجه للمرأة إنما ينطلق من رؤية عقائدية، ولذلك فهو مصيب فيما يقول؛ فيما أن الخطاب المسمى ليبرالياً، إنما ينطلق في نقده للخطاب الإسلامي من مرجعية "المنظومة الغربية". في المقابل، اعتبرت السياسية الأردنية البارزة توجان فيصل، أن الخطاب الطامح لـ"حماية المرأة"، ليس إلا خطاباً سياسياً يرتدي غطاء العقيدة لكسب الجماهير وحصد المكاسب السياسية.
ثمة أمثلة أخرى كثيرة طبعاً، لكن في هذا المثال البعيد عن السياسة وتصادماتها، ما يؤكد أن الأمر ليس اختلافاً في وجهات النظر، بل هو خلاف أساسي عميق يجعل الاتفاق على "برنامج عمل" للنهضة، ولو على طريقة تقاسم الأدوار، غير ممكن موضوعياً؛ إذ كيف يمكن أن يتفق من يطرح نفسه مخلّصاً في الدنيا والآخرة، مع من يعتبره مرتبطاً بـ"المرجعية الغربية"؟!
تحت عنوان "ما العمل؟"، أصدر المفكر العربي الكبير قسطنطين زريق، في العام 1998، أي قبل سنتين من رحيله، كتاباً مختصراً كـ"حديث إلى الأجيال العربية الطالعة". أشار فيه في معرض توصيفه لسلوك الأمة تجاه تخلفها، إلى أن النظرة التشاؤمية تكتسح سائر الفرقاء العرب. حقاً إنها نظرة تشاؤمية، لكنها لم تكن تصدر من فراغ، بل من غياب برنامج العمل؛ فهل بعث فينا "الربيع العربي" أملاً وتفاؤلاً؟! ما يزال الوقت مبكراً لإصدار الأحكام على أي حال.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد