يدمي القلب منظرهم وهم على أسِرّتهم ينتظرون وحدات الدم التي اعتادوا أن يُحقنوا بها مرة كل ثلاثة أسابيع؛ أطفال في أعمار الورود يحتاجون إلى الدم لطرد الحديد من أجسامهم؛ منهم من انتظم على دواء منذ سنوات طويلة، وآخرون ينتظرون إجراء عملية زرع نخاع العظم والخلايا الجذعية لتجاوز معاناة مديدة مع مرض "الثلاسيميا" (أنيميا البحر المتوسط). وفي كل الأحوال، يحتاج هؤلاء إلى من يمد إليهم يدا، ويساندهم لتجاوز محنة المرض، ويكونوا أعضاء فاعلين في مجتمع يحترمهم ويسمح لهم بالانخراط به.
عددهم أكثر من ألف ومئتي مريض، ويحتاجون إلى 25 ألف وحدة دم سنويا. ويسجل هنا لبنك الدم قدرته الفائقة على تأمين احتياجات هؤلاء وغيرهم، كما يسجل لوزارة الصحة جهدها المتراكم للاهتمام بمرضى الثلاسيميا من خلال قسم متخصص. وتقدر كلفة العلاج السنوية بنحو 12 مليون دينار، لا يساهم القطاع الخاص بأي مبلغ فيها.
بعيدا عن الحالة النفسية لهؤلاء المرضى، وهي أولوية كيفما نظرنا إليها، فإن تفاعل مؤسسات المجتمع المدني ضعيف حيالهم، بل يكاد يكون معدوما. وأكثر من ذلك التقصير المزمن من طرف المؤسسات والشركات والبنوك التجارية، إذ يواجه الأطفال والشباب، وحتى الكبار، صعوبات جمة في هذا الصدد، فمعركتهم مع المرض قاسية، وأيديهم كانت هدفا للحقن حتى تورمت، ولا تقل معركتهم للانخراط في المجتمع ضراوة عن الأولى. فمعظم الشركات لا تقبل تعيين مريض الثلاسيميا حتى وإن كان حاصلا على شهادة جامعية بتقدير مرتفع. ومن كثرة الأبواب الموصدة في وجوه تلك الفئة من المجتمع، فقد شكلت منتدى يهدف إلى توسيع الثقافة الصحية بمرضهم، ويحاول إيجاد موطئ قدم لهم في دولة يكاد ينبذهم قطاعها الخاص.
لن أتحدث أكثر عن مرضى الثلاسيميا الذين يحتفلون اليوم السبت باليوم العالمي لمرضى الثلاسيميا، لكن سأتوقف عند ملاحظات سمعتها من أطباء وأهالٍ ومرضى، مفادها أن الإقصاء هو الجواب الذي يتلقاه المصابون بهذا المرض وهم يبحثون عن فرصة عمل.
يبدو الحديث أكثر إلحاحا عن القطاع الخاص. فالمراقب لمسار الفساد في البلاد سيجد أن القطاع العام مني بضربات قوية من خلال إدارة ضعيفة وفاسدة للمال العام، أوصلت المديونية اليوم إلى ما يفوق 20 مليار دولار. لكن فساد كثير من مؤسسات القطاع الخاص وشركاته أكثر حدة وفظاعة. وحتى الشركات المساهمة العامة، وهي مال عام، يتصرف كثير من رؤسائها على نحو استبدادي، وفي غفلة من الرقابة والقانون؛ بحيث تبدو هذه الشركات قلعة للفساد لا يقترب منها أحد، ويتم داخلها ارتكاب الكثير من جرائم الرشوة والمحسوبية والسرقة والنهب وسوء الائتمان، وغيرها من فظاعات بات يعرفها القاصي والداني، لكننا نصمت حيالها منذ زمن بعيد.
العام الماضي، حققت 219 شركة فقط أرباحا تجاوزت مليارا ونصف المليار دولار، حصة مرضى الثلاسيميا منها كانت صفرا. وللعلم، فإن عوائد وأرباح الشركات تستنزف في كثير من الحالات في مياومات ورواتب وأجور ورفاهية وأعياد ميلاد ممثلي الإدارة العليا في الشركة. وهذا النزف متواصل ولا يقوى أحد على تغيير الصورة. 
ومن واقع سنوات تغطيتي في الصحافة الاقتصادية، وتحليل ميزانيات مئات الشركات منذ منتصف التسعينيات، يمكن القول إن الفساد في القطاع الخاص في بلادنا أكثر خطورة منه في القطاع العام، وإن "رموزا" في الجهتين يتفقون على إدامة حالة الإفساد تلك، ولا يتوفر أي إحساس، ولو بالحد الأدنى، لدى تلك الفئة التي أثرت في غفلة من الرقابة، تجاه الفقراء أو المرضى، أو المجتمع على نطاق أكبر.
دروس الفساد التي صُدمنا بها في القطاع العام خلال السنوات الأخيرة، كانت مستقاة من خبرة "عريقة" لرجالات في القطاع الخاص، وهم ذاتهم الذين يقومون بتعيين ابن صديق فاسد، ولكنهم لا يعينون مريضا بالثلاسيميا يحمل الشهادة الجامعية!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي