ظل محيّراً ما إذا كان الوصول إلى "ثقافة احترام القانون" في مجتمعاتنا العربية، هو مسألة ثقافية أم قانونية؟ إنها حقاً مثل حكاية البيضة والدجاجة؛ فالحل الثقافي يُنتج بالضرورة تغييرات تشريعية، وفرض التشريعات والسهر على تطبيقها بأمانة، يستتبع بدون شك تغييرات ثقافية إيجابية لصالح احترام الناس للقانون، والالتزام به.
يقولون: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ أفلا يعني ذلك أن الخيار التشريعي، الذي يُطبّق بحزم، هو الأَولى؟ لكن الأمر لم يكن من قبل ميسّراً في عالمنا العربي، الغارق في فساد بنيوي وشامل، فظل الخيار الثقافي لدى قطاعات من المشتغلين بالعمل العام، بمثابة بديل ممكن، شريطة تصديقهم أنّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، لأن الأمر لم يكن يتعلق باللحظة القائمة، بل بالأزمة الحضارية التي يعيشها العالم العربي، وتمنع تقدمه على طريق المشاركة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن حل مشاكله الداخلية، وعلى رأسها قضايا الاحتلال والإتباع والإلحاق.
اليوم، بعد ثورات الربيع العربي، لا يبدو أن أشياء كثيرة تغيّرت بعد. فالثقافة السائدة في المجتمعات العربية، لم تعترف فعلياً حتى الآن، بالقانون مرجعاً وإطاراً، ذلك أنها في الحقيقة لم تعترف بعد بالدولة المعاصرة إطاراً نهائياً يجمع الناس على قاعدة المواطنة، بدليل أن مجتمعات "الربيع العربي" ما تزال تعتمد القبلية والطائفية مرجعاً ينتسب إليه الأفراد، ويحققون من خلاله ذواتهم ومصالحهم، ويعبّرون بواسطته عن أحلامهم وطموحاتهم، في تناقض بيّن مع ما يعيشونه في حياتهم اليومية.
هذا التناقض، ظل -على سبيل المثال لا الحصر- أحد أسباب الفساد المستشري في الدول العربية، وبخاصة في شكله المالي؛ إذ كيف يمكن للفرد أن يحمي دولة لا يعترف بها إطاراً ومرجعاً، أو أن يحافظ على مصالحها وأموالها؟!
ليس ذلك فقط، بل إن أنواع الفساد الأخرى، القائمة على النفوذ وتبادل المنافع والتعامل مع الأوطان على أنها كعكة يجري تقاسمها، إنما تنبع من ذلك التناقض نفسه. هنا، يمكن استعارة ما ذهب إليه المفكر العربي برهان غليون، قبل "الربيع العربي" بسنوات، من أن غياب القانون عن المجتمعات العربية، جعل القوة بديلاً وحيداً لإدارة العلاقات داخل الدول العربية، سواء ما تعلق بالعلاقات بين أفراد المجتمع، أو علاقتهم مع السلطة. ولهذا، لم يكن ممكناً للعرب أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح، عوضاً عن الحياة القائمة على قانون القوة.
هكذا، فإن "القيمة المضافة" التي يمكن أن يقدمها "الربيع العربي" لمسألة سيادة القانون، تتمثل في السعي إلى بناء مسارات متوازية، بين ما هو ثقافي وما هو تشريعي. إذ بينما ما يزال الدور الثقافي مهماً، كما يتضح من مآلات الأمور في دول "الربيع العربي"، فإن طبيعة الثورات الشعبية التي قامت يُفترض أن تكون أوصلت للحكم من يدركون أهمية إقامة "دولة القانون"، فيوظفون التشريع في صالح التغيير الثقافي الذي يكرّس سيادة ذلك القانون والاحتكام إليه.
لقد كان طبيعياً أن تستمر سيطرة الثقافة التي لا ترضى بسيادة القانون، على مجتمعات "الربيع العربي"؛ ذلك أن رفض تلك الثقافات التقليدية لم يكن -في الحقيقة- الدافع المحرّك للثورات، ولم يكن ثمة ثقافة بديلة لتلك الثقافات التي سعت أنظمة الاستبداد السابقة إلى تكريسها وتوظيفها لخدمة مراميها.
الخطورة تكمن في أن لا تسعى أنظمة الحكم الجديدة، الناتجة عن ثورات الربيع العربي، إلى تكريس تلك الثقافة الجديدة المستندة إلى احترام القانون، عوضاً عن القبلية والطائفية. ساعتها، لن يكون هناك بديل من مواصلة اللجوء إلى الخيار الثقافي كسبيل وحيد ممكن، وعندها لن يكون ثمة ما تغيّر في عالمنا العربي الخارج عن مسار التاريخ!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة سامر خير أحمد جريدة الغد