أسوأ ما يمكن أن يحدث وأنت تواجه أزمة مستعصية، هو التشخيص الخاطئ لها، ومحاولة التذاكي فوق مشهدها، باعتبار أن الانطباع الذي يتشكل يستطيع إزاحة الأنظار عن حقيقة ما تعنيه هذه الأزمة. وكان الغباء في التعاطي مع أزمات المجتمعات العربية على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ملمحا رئيسا في أسلوب إدارة الدولة، وإلا لما كنا أمام رياح تغيير عاتية، هبت وما تزال في معظم الأجواء العربية.
في أزمة الاقتصاد والبحث عن حلول، والجدل حول اتخاذ قرارات برفع الأسعار، لا يجدي التعامل "التجميلي" من خلال خفض راتب هذا المسؤول أو ذاك، وكأن الأمر ينتهي بمجرد خفض رواتب من في الدرجة العليا بنسبة 15 %. وحتى يكتمل مشهد الاستهلاك الإعلامي، يخرج النواب بسيناريو تخفيض الرواتب ذاته، وهم بالأمس القريب أغلقوا ملفات فاسدة قيمتها مليارات، بينما كان من الممكن أن يشكل فتح تلك الملفات سببا في حل اقتصادي في المدى المنظور، سواء من خلال استرداد أموال خسرتها الخزينة، أو عبر وقف النهب المستمر للمال العام ومحاولة استعادة ما تسرب منه.
وبالنسبة لأصحاب فرضية أن استرداد أموال تعود للشركات لا يساعد في الحل، فأعتقد أنهم مخطئون؛ فإعادة أموال بالملايين أو المليارات لشركات مساهمة عامة كبرى سيعود بالخير على الخزينة عبر قناة الضريبة. وفي موازاة ذلك، فإن التسويات التي ستنشأ نتيجة فتح ملفات معروفة، يسهم في توفير المزيد من السيولة لخزينة تضج من فرط عجزها. وهي في كل الأحوال أدوات أفضل بكثير من نظيرتها الدعائية التي لا تقدم شيئا، وتشعرنا بأن مسألة رفع الأسعار والدخول في موجات غلاء جديدة باتا أمرين حتميين، وأن المسؤولين في الدولة فعلوا ما عليهم؛ لقد اقتطعوا نسبة من رواتبهم وكفى.
التشخيص الخاطئ يقود إلى معالجة خاطئة بالضرورة. فعيوب الاقتصاد وتشوهاته مستمرة منذ زمن بعيد وليس الدعم على رأسها. والحديث عن التشوهات يطرح أسئلة لا تنتهي عن أولويات الدولة وإنفاقها، واستمرار تفاقم استنزاف القطاع العام لمجمل الاقتصاد على نحو غير منتج. ومثلها أسئلة تخطي المديونية لمستويات قانونية وغير قانونية مقلقة. وكذلك التهرب الضريبي بمبالغ لا يمكن السكوت عليها. صحيح أن بعض كبار المسؤولين في بلادنا بادروا إلى تخفيض رواتبهم بنسبة 15 % لستة أشهر، لكن معظم المسؤولين وموظفي الدرجات الخاصة والعليا لا يدفعون ضرائب، وفقا لما يتسرب من معلومات، ناهيك عن غض الطرف عن مؤسسات وشركات اقتصادية كبيرة لا تدفع من ضرائبها إلا النزر القليل. وبعد هذا كله، تدعي الحكومة أنها تسعى إلى ضبط الإنفاق وترشيد الإدارة، بينما ملفات الفساد الكبيرة وعمليات التهرب والتحايل الضريبي تستمر، وليس ثمة ما يقض مضاجع المتسببين في كل هذا المشهد.
وبأهمية ما سبق، فلا بأس من التذكير مرة أخرى بأن التشخيص الجيد يعني عدم إظهار الشارع -عبر مسيرات مفتعلة- وكأنه يرتضي رفع الأسعار. ولعل ما عبرت عنه القوى الشعبية المطالبة بالإصلاح في معان قبل بضعة أيام، يبعث رسائل واضحة بأن المسألة ليست نزهة على الرمال. كما لنا في حادثة انتحار شاب قبل يومين محطة للفهم لكل مسؤول لا يعي حجم ما يحدث في الدولة؛ فهو الشاب الذي يعمل في ورشة، وبحث عن ساعات عمل إضافية ليتمكن من العيش. وبرفض طلبه انهارت الحياة كلها أمام ناظريه، وانتهى إلى ما قرر. مشكلتنا مزمنة، وتتراوح بين تشخيص خاطئ، وتلاعب ساذج بالرأي العام، ومراوحة في ذات المربع، بينما نهجنا الاقتصادي كله ومثله السياسي بحاجة إلى إصلاح حقيقي لا دعائي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي