ليس خافيا أن تأمين الرواتب والأجور بات أمرا عسيرا، ويخضع لمحاولات ومساومات مع جهات مانحة وأخرى درجت على تقديم مساعدات متقطعة. ولا يغيب عن بال كثيرين أن الإشاعات التي تفاقمت في الآونة الأخيرة بشأن احتمالية انخفاض قيمة الدينار في مقابل الدولار -وإن كانت غير صحيحة عمليا نظرا لكبر حجم الاحتياطيات- قد أثرت بالفعل في المزاج. والمسألة تتراكم تباعا بالاستناد إلى تأكيدات رسمية بأن المديونية قد تصل إلى 24 مليار دولار في نهاية العام الحالي، وأن عجز الموازنة سيتخطى 3 مليارات دولار؛ فهذان الرقمان وحدهما، مع القلق على تأمين الرواتب والأجور والمخاوف على العملة، إضافة إلى قرارات رفع أسعار المشتقات النفطية، تشكل جميعها أشباحا ترافق الأردني في يومه ومنامه.
كثر الحديث في العامين الأخيرين عن حكومات الطوارئ، والبحث عن حلول عاجلة لكوارث الاقتصاد في غير دولة. ولعل المثال اليوناني بعد إسقاط حكومة باباندريو التي قادت الدولة إلى الإفلاس، يدق ناقوس الخطر لدول كثيرة لا تأبه باستمرار مسار الإفلاس والانهيار المتدرجين. فديون اليونان للمؤسسات المالية الدولية ارتفعت فوق 415 مليار دولار، بما يشكل 120 % من من ناتجها القومي. وإذا تركنا اليونان خلفنا والتفتنا إلى بلادنا، فما الذي يعنيه أن تشكل المديونية ثلثي الناتج المحلي الإجمالي بعد ستة أشهر؟
السياسات والممارسات التي سمحت بتخطي المديونية لنسبة ستين في المئة العام الماضي، وتسعى إلى إيصاله نهاية العام الحالي إلى ثلثي الناتج المحلي، لا تمانع في أن تصل تلك المديونية إلى نسبة 100 % أو أكثر من الناتج المحلي في الأعوام المقبلة. وفي تقديري أن مسار المجموعات المتحكمة في شكل الاقتصاد ومآلاته، كانت سببا رئيسا في بؤس الحالة التي وصلنا إليها. والإصرار على إبقاء شخوص تلك المجموعات، واستمرار ذات النهج الاقتصادي، يعد العامل الأبرز في الحكم مسبقا على فشل أي جهود للخروج من عنق الزجاجة، كما تدعي كل الحكومات بما فيها الحكومة الحالية التي شارك أعضاء فيها في تقليص فرص منافسة الأردنيين، وزيادة حجم التحديات لا سيما بشأن مستوى المعيشة.
تلك الأسماء الاقتصادية المتكررة، والمتوارثة في أحيان أخرى، كانت سببا في ارتفاع نسبة الإنفاق الحكومي على مدار عقد مضى إلى ما يزيد على 300 %، وهي ذات "النخب" التي لم يكن لها علاقة وثيقة بفكرة الوطن والانتماء لمصالح أبنائه، فباعت واشترت بأثمان بخسة، وكدست الثروات ونهبت الخيرات في غفلة من الرقابة والمحاسبة. ولم تكن لها أيضا علاقة مع المخططين الخارجيين لشكل الاقتصاد وما سيؤول إليه؛ فحتى توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين التي ظلت تلح على ضرورة خفض الإنفاق الحكومي وتقليص نسبة القطاع العام من إجمالي الاقتصاد، لم تلتفت إليها؛ فعززت بيئة الإنفاق غير المجدي، ورسمت موازنات مشوهة، واستمرت في الاستدانة من الداخل والخارج. واتسعت، تبعا لذلك، بؤر الفقر في العاصمة والأطراف. وكان "الفريق الاقتصادي" يطل برأسه دائما ليقول لنا: لا بد من اتخاذ قرارات غير شعبية عبر رفع الأسعار وإزالة الدعم؛ وكأن المشكلة في المجتمع والمستهلكين وليست فيمن أدار الملف الاقتصادي وباع موجودات الدولة بأسعار لا يصدقها عاقل أو منتم.
بالعودة إلى الدرس اليوناني؛ فإن حكومة باباندريو والحكومات التي سبقتها، أثخنت في الإساءة للاقتصاد اليوناني. والحكومات المعينة لدينا، بفرقها الاقتصادية المجربة، لا تختلف كثيرا عن حكومات اليونان؛ فهي توسع من خطر المديونية، وتقود الدولة إلى الإفلاس. مما يعني أن إصلاح الاقتصاد أمر لا ينفع معه التأخير. والإصلاح هنا يعني طي صفحة تلك الفرق الفاشلة، بل ومحاسبتها، وإيصال نخب منتخبة نزيهة، لديها برامج اقتصادية ذات صلة بالأردنيين وهمومهم، بعيدا عن نهج ثبت فشله بعد أن ترك البلاد مفتوحة للنهب الداخلي والخارجي، بينما المواطن الفقير كان دوما يدفع الثمن.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي