أغلب الظن أن ما يسمى "حكمة الشيوخ" التي تورد عادة لبيان اختلاف كبار السن المجرّبين وأصحاب الخبرة في الحياة، عن الشباب وحماسهم، ظلت تنبع لا من الحكمة بمعناها الحقيقي، بل من الواقعية التي يتوصلون إليها نتيجة انكسارات الحياة وصعابها. وهكذا، يصدر حماس الشباب عن أحلامهم الكبيرة قبل أن يختبروا صعوبة الواقع، فيما تصدر حكمة الشيوخ عن انكسارات أحلامهم الكبيرة، هم أيضاً، على مدار سنوات العمر!
بهذا المعنى، ربما يكون "الحماس" نزقاً ليس إلا، وتكون "الحكمة" إحباطاً واستسلاماً للواقع الصعب. وعلى الصعيدين، فإن المشكلة تكمن في البيئة التي تُبنى فيها الأحلام وتنكسر: فهي من جهة، لا تزود المرء بالظروف الثقافية الملائمة التي تجعله يدرك ماهية الأحلام المتناسبة مع الواقع ومنطق الحياة؛ ومن جهة ثانية، فإنها لا توفر الظروف الملائمة ليجتهد المرء من أجل تحقيق أحلامه، أو جزءاً منها، إلى الحد الذي يوفر له الرضى ويحول بينه وبين الإحباط.
في عالمنا العربي الذي يعيش ترابطاً ما بين تردي الأنظمة التعليمية وغياب القانون والمؤسسية، من جهة، والبيئة الاجتماعية والسياسية القائمة على العنف النفسي، والتي تنطلق فيها الأمنيات الأولى وتندحر، من جهة ثانية، بحيث تقود إحداهما إلى الأخرى بالضرورة، في هذا العام ظل طبيعياً أن يكون لدى الشباب غير المجرّبين وغير المثقفين، بالمعنى العميق الذي يتجاوز المناهج التعليمية التلقينية التي يتعلمونها في صغرهم، أحلام كبرى غير واقعية، تبدأ بالشؤون العامة التي تتناول عادة الموضوعات السياسية الكبرى، ولا تنتهي بالشؤون الخاصة التي لا تقل عن أحلام الثراء والحب والشهرة، من تلك الأنواع التي يستنكرها المجتمع الأبوي التنميطي، ولا يتسامح معها. كذلك، ظل طبيعياً أن يتوفر الناس في مراحل ما بعد منتصف العمر، على قدر غير يسير من الإحباط والاستسلام لأمر واقع لم يكن مرغوباً، ويتعارض في جوهره مع الأحلام الأولى الكبيرة، ومن ثم التصالح معه على مضض، وصولاً إلى الدفاع عنه تالياً في مواجهة من يصرّون على أحلامهم الأولى الطوباوية، وفي مواجهة الأجيال الجديدة من الحالمين، في تعبير عن هزيمتهم النهائية أمام الواقع الذي كانوا يحلمون بقلبه رأساً على عقب في شبابهم المبكّر.
قد يكون ثمة أمثلة كثيرة على هذه الحال، غير أن أكثرها تعبيراً ربما تكون تلك التغيّرات الجذرية التي تصيب النشطاء السياسيين، وتؤدي إلى انقلابهم من منظومة تفكير إلى أخرى مع تقدمهم في العمر، بحيث يلاحظ الآخرون أن أحلام هؤلاء تقزّمت من سعي إلى تحقيق الصالح العام، إلى اكتفاء بتحقيق مصالح خاصة، مثل الحصول على منصب أو نفوذ، من خلال مداهنة القوى المسيطرة على ذلك الواقع الذي كان مرفوضاً، في جانبيه الإداري والمالي.
على أن هذه الحال تعكس عدم استقرار البيئات الواقعية في عالمنا العربي، ما يدفع الشباب لأن يحلموا بتغييرها، بل قلبها رأساً على عقب. ومن هذه الزاوية بالذات، قامت ثورات الربيع العربي على أكتاف شباب صغار لم يخبروا الإحباط بعد. وهو ما يجعل هذا الجيل مميزاً بين الأجيال الأخيرة التي تكسّرت أحلامها وغرقت في الإحباط والسعي إلى المصالح الخاصة عوضاً عن العامة. فهل يعني ذلك أننا أمام تغيير مقبل في البيئات الاجتماعية والسياسية، وفي الظروف التعليمية والثقافية، ما دامت تلك المفردات مترابطة وتقود إحداها إلى الأخرى؟
هذا هو السؤال الأساسي في العالم العربي اليوم، كي يحكم التاريخ على ثورات الربيع العربي سلبياً أو إيجابياً؛ لأن الثورات التي احتاجها العالم العربي كي يعود إلى مسار التاريخ، ظلت على الدوام تفيض عن حدود تغيير أنظمة الحكم، إلى تغييرات ثقافية ومعرفية جذرية، هي أساس النهوض الحقيقي الذي يتجاوز الشكليات والشعارات.
FacebookTwitterطباعةZoom INZoom OUTحفظComment

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد