تطورت لوحة الاحتجاجات الأردنية، واختلطت ألوانها إلى حد يصعب فيه التفريق بين الملهاة والمأساة، أو بين الواقع والخيال. ولعل إضراب موظفي دائرة ضريبة الدخل والمبيعات منذ الخميس الماضي يعد أنموذجا صارخا للغياب الحكومي، واستمرار حالة التهميش حتى لمن يضخ المال للخزينة.
مشهد كاريكاتوري بامتياز، لكنه موجع؛ يبدأ بسيارة نقل كبيرة تحمل كراسي وطاولات، وتقف أمام أحد فروع دائرة الضريبة. يستقبلها موظفون مضربون عن العمل، ويقومون بإعداد "الصيوان" لاعتصام وإضراب لم تقل لنا الحكومة بعد متى سينتهيان. وفي الأثناء، تصل سيارة أخرى تحمل سماعات ضخمة، وأجهزة صوت، ويرتبط بها "دي. جيه"، فلا بأس من إضفاء المتعة على ساعات طويلة أمام مبنى المؤسسة المالية الأكثر ضخامة وأهمية في البلاد.
لست بصدد تقييم ردة فعل موظفي الضريبة عقب أشهر من المماطلة والتسويف؛ فطرق الاحتجاج لا تتشابه، ولا توجد لها معايير صارمة، وقد طال انتظار الموظفين لعلاوة المؤسسة بنسبة 30 % بناء على الهيكلة المزعومة. كما أن مطالبهم برفع سقف المكافأة إلى 500 دينار بدلا من 350 دينارا، وفصل العمل الإضافي عن المكافأة، لم تلق آذانا صاغية. ومنذ نيسان الماضي والموظفون ينتظرون الفرج الحكومي لكنه لم يأت، وكانوا يخططون للاحتجاج في ذاك الشهر، لكن الأشهر الأربعة الأولى من العام تمثل التدفق الأكبر لمبالغ الضريبة التي ترفد الخزينة، ما جعلهم ينتظرون لأشهر أخرى، لكن بدون نتائج حتى يوم منتصف هذا الشهر.
طبعا، المشهد الكاريكاتوري الآنف يقابله موقف طاعن في السخرية. فالحكومة تتجاهل نحو 1400 موظف في دائرة تضخ إيرادات تتخطى في حجمها ثلثي الموازنة العامة، وهنا بيت القصيد. فكيف تتجاهل الحكومة والاقتصاديون فيها دائرة مثل الضريبة؟ وهل سيطعم موظف الضريبة أطفاله من كتب الشكر والثناء، وهو الموظف ذاته الذي يزيد حسن أدائه أو سوئه حجم الإيرادات الكلي أو ينقصه؟ والسؤال أيضا: ما سر هذه السلبية في الأداء الرسمي حيال مؤسسات وازنة، يحظى أبناؤها باهتمام ورعاية في كل أرجاء المعمورة؟
المساس بعلاوات العاملين في الإيرادات المالية، يعني بالضرورة مساسا بتلك الإيرادات. والعلاقة بين الموظفين ومؤسستهم لا تقوم على الشعر والغزل، وإنما على الإنصاف والعدالة، وتجنيب دائرة حساسة كهذه شبهات الفساد والرشى وغيرها من الأمراض والجرائم التي تتسلل إلى بعض العاملين لأسباب كثيرة، منها تدني مستوى الدخل، وتزايد ضغوط الحياة على الموظفين وأسرهم. ليس بقصد المقارنة وإنما للتذكير، فإن موظفي دائرة الإيرادات الداخلية "آي. آر. أس" في الولايات المتحدة يحظون بأفضل مستويات الدخل على مستوى أميركا، كما أن لديهم قوانين وتشريعات تجعل من عملهم قوة لا يستهان بها، وبما يمكنهم من ملاحقة حقوق الخزينة أينما ارتحل دافع الضريبة. ومرد هذه القوة أن حقوق الشعب الأميركي من الضرائب يجب أن تصان، وأن تتحرك وفقا لتشريعات حازمة تمنع التهرب، وأن يقوم على تحصيل هذه الحقوق موظفون متمكنون ولديهم فرصة حياة كريمة وظروف معيشية منطقية وتتناسب وطبيعة مهنتهم وحساسيتها.
يتسرب من دائرة ضريبة الدخل والمبيعات سنويا ما يفوق 25 مقدرا ومدققا، يلجأون إلى القطاع الخاص بحثا عن فرصة أفضل في مواجهة واقع اقتصادي متضخم، فيما جاءت الهيكلة بعلاوة المؤسسة لدوائر كثيرة كانت تتمتع بالنظام الخاص، لكن تلك الهيكلة تجاهلت دائرة ضريبة الدخل، وليس معقولا أن تمنح علاوة المؤسسة لدوائر في الدولة تعد عبئا على الخزينة، وأن تحجب عمن يرفد الخزينة بإيرادات متنامية منذ نحو عقد!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد صحافة حسن احمد الشوبكي