تناقلت الأنباء المحلية خبر شغور مناصب، تتجه الحكومة إلى تعيين من يتبوأ أمانة المسؤولية فيها، ومنها الأمين العام للمجلس الأعلى للشباب، وإدارة مدينة الحسين للشباب، وهيئة مراقبة الشركات، وغيرها.
تلك أخبار عادية، لكن ما يدعو إلى التأمل، والسخرية أيضا، هو حجم الواسطات والاتصالات والاستجداء والمناسف التي تكاثرت ريثما يتسنى للحكومة ملء هذه الشواغر. ففي غفلة من رداءة الإدارة وغياب المعايير، يقوم أبناء الوسط والشرق والغرب، والبادية والحضر والريف، والمتعلم والجاهل، بالجريمة ذاتها، التي يدفع ثمنها مواطن منهك، واقتصاد يراوح في مربع العجز.
نعم، هي جريمة يقترفها المجتمع كله بدون أن يرف لنا جفن، فيما تتردد في أروقة دعوات النفاق والتملق عبارات من قبيل: الرجل المناسب في المكان المناسب، والتي لم تقدم لاقتصادنا -في أغلب الأحيان- إلا الرث والضعيف والمهزوز. فبطبيعة الحال، من يتعين من خلال المحسوبية سيبقى أسيرا لمن عيّنه، وهكذا دواليك حتى تغيب المعيارية، ويتصدر المشهد الإداري والاقتصادي والسياسي الضعفاء وغير المؤهلين. ولا يحتاج المرء إلى كبير جهد ليكتشف صدقية هذا الزعم. فبالنظر إلى مؤهلات قيادات عدد غير قليل من الدوائر والإدارات الرئيسة في الدولة، يظهر أن المحسوبية والواسطة والمنسف إياه والهدية الثمينة، وليس الكفاءة، هي من فرشت السجاد الأحمر في طريق صاحب العطوفة الذي يمهد للقب معالي وربما دولة.
أزمة المجتمع هنا حاضرة وبقوة؛ ففي جلسات التنظير الفكري، نشتم الواسطة والمحسوبية، ولكننا نمارسها بكل رداءتها على أرض الواقع، وندفع غالباً إلى الإدارة والمواقع الكبيرة بالصغار والضعفاء والجهلة ومسلوبي الإرادة، ومن يتسولون المنصب والوظيفة؛ وتلك بالفعل "أم الجرائم". وذات الشخص الذي كان طرفا في واسطة، ينتقد في موقع آخر مسار الاقتصاد، ويطالب بالإصلاح، فعن أي إصلاح يتحدث؟ وإذا لم يكن التأهيل سببا للتعيين، فأين نحن من دولة المؤسسات والقانون والعدالة والمساواة، وشروط الكفاءة والمعيارية؟
ماراثون الواسطة قبل ملء المنصب الشاغر خطير ومتدحرج؛ فالشخصية الفلانية الكبيرة تقاتل على جبهة، وتستخدم كل الأسلحة، بما فيها غير الأخلاقية أحياناً، من أجل دعم حظوظ رجلها؛ وتقابلها شخصية أخرى تفتح أفقا جديدا للتأثير من خلال شبكة ارتباطاتها ونفوذها. وهكذا، لا ينتهي الماراثون ولا تنتهي هذه المهزلة التي تضر بنا وباقتصادنا، وبالقيم التي تحكم سلوك الأفراد والمجتمع، بما يجعل الدولة كلها عرضة للابتزاز والتشويه والضعف، إذ تتحول إلى حارات وجهويات وقبليات ومحسوبيات، تفرز على نحو متكرر وبائس ومضر نفوذ من يديرون لعبة تعيين المسؤولين.
في المقابل، فإن من الأمراض والجرائم التي تفتك بالاقتصاد والسياسة، ونمط حياتنا عموما، جريمة التوريث؛ وهي لا تقل بشاعة عن جريمة المحسوبية. فمدير الشركة يورث ابنه، ومثله مدير البنك، وكذلك المنصب العام الذي أمسى عرضة للتوريث. وللأمانة، فإن التوريث لم يكن حصريا في عائلة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، بل إن طبقة الأعمال المصرية تعتمده (التوريث) أيضاً. وحتى في الفن ترى التوريث فاضحا؛ فالفنانان عادل إمام ويحيى الفخراني وقفا أمام كاميرتين -في مسلسلي فرقة ناجي عطاالله والخواجه عبدالقادر اللذين عرضا في شهر رمضان- يحركهما نجلاهما. والمشهد مفتوح على التوريث والمحسوبية وولائم الكذب، ومزيد من الطعن في الاقتصاد والمجتمع هنا وهناك.
بالمناسبة، لجأت لأمثلة مصرية ليس بسبب عدم توفر المثال الأردني -وما أكثره- وإنما هروبا من عبء الملاحقة القضائية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   صحافة  حسن احمد الشوبكي