يعيد النظام السوداني استدعاء تاريخ المسلمين الأوائل في كل مرة يشتبك فيها مع الحركة الشعبية الجنوبية، منذ سنوات ما قبل انفصال الجنوب عن الشمال التي امتدت خلال عهد نظام "الإنقاذ" لأكثر من عشرين سنة، وكأنه يريد تذكير السودانيين، والعرب والمسلمين، أنه نظام "إسلامي"، وأن الجنوبيين المنفصلين حديثاً في دولة مستقلة، يدينون بدين آخر، وأن القصة تتلخص في حرب دينية "مقدسة!"، لا في صراع مصالح ومكتسبات ومعركة بقاء بين شعبين كانا موحدين في دولة واحدة قسراً، وانفصلا حديثاً وبينهما ما صنع الحدّاد!
وزير الدفاع السوداني، مثلاً، قال قبل أسابيع، بينما كان مذيع "الجزيرة" يستوضح منه صحة الأخبار التي تحدثت عن استعادة جيش الشمال لمنطقة هجليج من الجنوبيين بعد معركة دموية، إن جنود بلاده "حالياً يصلّون العصر في هجليج". وفي العبارة إسقاط تاريخي على قول الرسول صلى الله عليه وسلّم للمسلمين، بينما كان يهمّ بإخراج اليهود من المدينة، "لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة"؛ فكأن السودانيين الشماليين فتحوا هجليج، ليعيدوها إلى "بلاد المسلمين"، ويطهّروها من "أعداء الإسلام"، كما فعل المسلمون الأوائل حين طهّروا المدينة من اليهود الذين تآمروا مع قريش في غزوة الخندق!
و"الإسلام"، طبعاً، لا علاقة له بالمسألة، وإلا لما تقاسم نظام البشير السلطة مع الحركة الشعبية لستّ سنوات قبل الانفصال، تماماً كما أن المعركة بين السودان والدولة الوليدة في جنوبه ليست دينية أبداً، ولا تمثل حالة "جهادية" بالمرة، لكنه الاستعمال السياسي للإسلام الذي اعتادته الحياة السياسية في السودان منذ أعلن جعفر النميري "قوانين سبتمبر 1983" الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية في دولة يدين نحو ربع سكانها بغير الإسلام، وهو الإجراء الذي كان له أثر كبير في اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عقب تأسيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في العام 1983، ومعها توالي الاكتشافات النفطية في الجنوب، فطالت الحرب حتى توقيع اتفاقية تقاسم السلطة في العام 2005، وانتهت أخيراً بانقسام السودان إلى دولتين في العام 2011.
ورغم أن الاستعمال السياسي للإسلام، في الحرب ضد الجنوب، ظل حاضراً خلال نحو ثلاثة عقود، واستند إليه نظام عمر البشير أكثر مما فعل النميري، فإن من المدهش أن يستعيد النظام السوداني هذه الأيام ذلك الادعاء الديني نفسه، لتعبئة السودانيين واستدعاء تأييد العالم الإسلامي، وكأن شيئاً لم يتغير بين العام 1989 والعام 2012!
وصل نظام البشير إلى السلطة عبر انقلاب العام 1989 ضد الحكومة الديمقراطية التي ترأسها الصادق المهدي، مستنداً إلى ادعاء ديني "إنقاذي"، عنوانه التحالف مع حسن الترابي ودعوته الدينية. هكذا ساهمت حركة الإخوان المسلمين، على امتداد العالم العربي، في الدعاية للنظام "الإنقاذي" الجديد، باعتباره نظاماً إسلامياً جهادياً، عبر المساجد والمحاضرات والأدوات الإعلامية التقليدية السائدة وقتها، في مرحلة كان تاريخ العالم المعاصر ينثني فيها، منتقلاً من الحرب الباردة إلى مرحلة القطب الواحد التي تقوّض فيها خطر الشيوعية: العدو المشترك لأميركا و"الإسلاميين".
تغيّر نظام البشير كثيراً خلال 23 سنة في السلطة، لكن خطابه لم يتغيّر: لقد تحوّل حسن الترابي إلى المعارضة، واعتُقل غير مرة، وتبدّلت المعركة الجهادية المقدسة ضد "العدو" الجنوبي إلى تقاسم للسلطة مع "الشريك في الوطن"، ثم ها هو نظام البشير يحدثنا من جديد عن "الجهاد"، وعن "الاستشهاد" دفاعاً عن السودان في مواجهة جنوبيي السودان. هل ثمة حاجة حقيقية لمثل هذا الخطاب الممجوج؟ وهل ثمة من يصدقه فعلاً؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد