بعد أكثر من عشرين سنة على الانعطافة الكبرى في تاريخ العالم المعاصر، والمتمثلة في انتهاء الحرب الباردة والقطبية الثنائية ومجمل النظام الدولي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية، ها هم العرب يبدأون -أخيراً- مغادرة مرحلة ما بعد تلك الحرب العالمية التي كان من أبرز سماتها لديهم سيادة الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم الاستقلال والدفاع عن الأوطان، ويلجون في "التاريخ الجديد" القائم على المشاركة العامة ومجمل حقوق الإنسان الأخرى، عقب نجاح ثوراتهم في إفراز أنظمة منتخبة ديمقراطياً في عدد من الدول العربية الرئيسة.
هكذا، ينعطف العرب مع المنعطفين نحو النظام السياسي الديمقراطي. وهم بذلك إنما ينعطفون للمرة الرابعة في تاريخهم الحديث:
فقد تمثلت انعطافة العرب التاريخية الأولى في الجنوح إلى التحديث مع تأسيس دولة محمد علي في مصر، العام 1805؛ أي بالانتقال من شكل الدولة القديم ونمطية صلتها بـ"شعبها"، إلى الدولة ذات البنية والتراتبية الحديثة؛ ثم من نمطية التفكير النقلي القديم، إلى التفكير القائم على "الحرية" و"المساواة" واحترام الفرد، وفق ما بشّر به رفاعة الطهطاوي.
أما انعطافة العرب الثانية، فوقعت مع وصول الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر إلى بلادنا، في منتصف القرن التاسع عشر. وفيها انعطف العرب من التحديث والفكر الحر، إلى الارتباك أمام قوة الاستعمار القاهرة. وكان من سمات الارتباك أن ارتد التفكير إلى الماضوية بدعوى "العودة" إلى الدين، وفق المدرسة التي أسسها الأفغاني، أو هرب إلى تقليد أوروبا بحجة الاستفادة من نهوضها، بحسب ما قال دعاة العلمانية المؤدلجة.
الانعطافة الثالثة حدثت مع زوال الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر، عقب الحرب العالمية الثانية، وظهور ما سمي "الدولة الوطنية" في العالم العربي التي حكمتها أنظمة استمدت شرعيتها إما من قيادة الثورة على المستعمر (كما في الجزائر وتونس)، أو من تأسيس الدولة الحديثة وتوحيدها (كما في معظم دول المشرق العربي)، أو من الانقلابات العسكرية المبررة أيديولوجيا بالاشتراكية والقومية (كما في مصر وسورية والعراق، التي هي أبرز الدول العربية الرئيسة). وهكذا، لم تستمد أي من تلك الأنظمة شرعيتها من شعوبها، فكان طبيعياً أن تحكم من دون الرجوع إلى الناس، ما أدى إلى تهميش الشعوب العربية على مدار نحو ستين سنة.
وها هي الانعطافة الرابعة تقع أخيراً، مع ثورات "الربيع العربي" التي "انعطفت" بالشعوب العربية من التهميش إلى المشاركة والتأثير والمساهمة في صناعة التاريخ. صحيح أن هذه الانعطافة لم تشمل كل العرب بعد، لكن شعوباً عربية مؤثرة قد انعطفت أو تكاد (في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية)، ما يعطي قيمة تاريخية كبرى لما أنجز فعلاً، ويبشر بأن العرب سيدخلون التاريخ من جديد، ولن يظلوا خارجه كما كانوا منذ خضوعهم للاستعمار العسكري والإمبريالية.
علينا أن نلاحظ، بينما نتساءل عن الكيفية التي سينعطف بها باقي العرب مع "أشقائهم" المنعطفين، أن دخول العرب في التاريخ المعاصر، القائم على احترام الفرد وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لم يكن مستحيلاً أو ضرباً من الوهم، وليس التأخر في إنجازه ناتجا عمّا هو متأصّل في ثقافتهم أو قيمهم الإنسانية والدينية، بدليل أن جزءاً معتبراً منه قد تم فعلاً. ثم علينا أن نلاحظ، بينما نطرح على أنفسنا التساؤل نفسه، أن دوراً كبيراً في دفع العرب لانعطافتهم الرابعة، قد لعبته التكنولوجيا الحديثة من خلال إتاحتها أدوات التواصل والمعرفة لشعوب عاشت ستين عاماً في ظل التضليل والتفتيت.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  سامر خير أحمد   جريدة الغد