في منطق التاريخ، فإن القرنين الأخيرين من عمر العالم العربي، يمثلان وحدة زمانية واحدة، عاشت فيها بلادنا ظرفاً حضارياً واحداً، وقضية حضارية واحدة. صحيح أن هذه الوحدة الواحدة مرّت بعدة انعطافات (كنتُ كتبت عنها مقالاً سابقاً)، غير أنها لم تعرف انقطاعات تجعلها تقسّم إلى مراحل وفترات.
هكذا، فإن ظهور الدولة العربية الأولى، في مصر، قبل نحو قرنين من الزمان، إنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثورات الربيع العربي التي نعيشها اليوم؛ فهذه الأخيرة تمثل امتداداً تاريخياً للأولى: قضيتهما رفض التخلف والسعي إلى النهضة. كذلك هو الحال بالنسبة للكفاح ضد استعمار بلادنا من قبل الأوروبيين، وظهور الجماعات والأحزاب السياسية المؤدلجة، ثم قيام الدولة العربية المعاصرة، التي عرفت تالياً الانقلابات العسكرية أداة لبلوغ الحكم، ثم الاستبداد المطلق بذريعة حماية الأوطان، والتصدي لإسرائيل والإمبريالية الإمبراطورية الأميركية، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من انفجار.
أسوق هذه المقدمة لأقول إن من رأى في ثورة 25 يناير في مصر، انقلاباً على ثورة 23 يوليو، بحجة أن الأخيرة قد ظفر فيها الإخوان المسلمون الذين كانوا خصوم عبدالناصر صاحب الثورة الأولى، إنما يعاني قصوراً في فهم فلسفة التاريخ، وإدراك معانيه الكبرى والكليّة. فالثورتان –في حقيقة الأمر- إنما انطلقتا من جذر واحد، وقضية واحدة، هي أيضاً "رفض التخلف والسعي إلى النهضة"، ولم تكونا أبداً ثورة من أجل عبدالناصر، ولا ثورة من أجل الإخوان!
هكذا، فإن الإخوان المسلمين لم ينتصروا أخيراً على العسكر وعبدالناصر، بوصول محمد مرسي إلى مقعد الرئاسة، كما أراد أن يقول من دعوا إلى عدم الاحتفال بثورة يوليو هذه السنة، بدعوى أنها ثورة عبدالناصر! ولسنا في حاجة إلى ترديد أنها كانت في الحقيقة ثورة المصريين على الظلم والتخلف، تماماً كما هي ثورة 25 يناير بالضبط.
لقد تعطلت ثورة يوليو برحيل عبدالناصر. تلك حقيقة تاريخية لا ينكرها منصف أو محايد، فخلفه أنور السادات الذي أقام نظاماً مختلفاً، رفع فيه شعارات مختلفة، وسلك فيه مسالك مغايرة، حتى صح فيه القول إنه "نظام كامب ديفيد"، لا نظام يوليو. حسني مبارك كان تلميذاً مخلصاً للسادات، وحافظ على نظامه. وهكذا تكون ثورة 25 يناير، التي ظفر الإخوان بمكاسب جولتها الأولى، انقلاباً على نظام السادات لا على نظام عبدالناصر، حتى لو كان عبدالناصر قد ناصب الإخوان العداء، فيما استخدمهم السادات أداة لتمرير سياساته. السؤال الذي يمكن طرحه، مدركين أن ثورة 25 يناير ليست ثورة الإخوان وحدهم، هو: تُرى هل يتصرف الإخوان، بينما يدعون إلى عدم الاحتفال بثورة يوليو، وكأن هدفهم كان الوصول إلى الحكم، لا إنهاض المسلمين وبناء مجتمعات صالحة ودول قوية؟!
إن كنا نريد تحقيق مرادنا في التخلص من التخلف والانتقال إلى التقدم والنهوض، فإن علينا إدراك كليّات التاريخ: لقد حاولنا مراراً، منذ نحو مئتي سنة، أن نتجاوز التأخر ونلج في النهضة؛ مرة بتأسيس دولة حديثة، وأخرى بالتجديد الفكري، ثم بالكفاح المسلح، ثم بالثورات والانقلابات العسكرية، لكننا كنا دائماً نخفق؛ تارة بسبب الاستعمار، وأخرى بسبب عدم الجهوزية الفكرية والعلمية، وثالثة بسبب الاستبداد. وها نحن اليوم نحاول من جديد من خلال نوع مختلف من الثورات، هي ثورات الشعوب، وعلينا أن لا نخفق مجدداً، لأي سبب كان، بما في ذلك الغرور الحزبي والطمع الفئوي والصبيانية السياسية، كالتي ظهرت مع المنادين بعدم الاحتفال بثورة يوليو. نرجوكم: لا نريد أن نخفق من جديد!
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة سامر خير أحمد جريدة الغد العلوم الاجتماعية