يقول رئيس أوروغواي خوسيه موخيكا: "أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه". وربما تبدو هذه العبارة عادية ونظرية، ولكنها ذات دلالة ومغزى كبيرين لمن اطلع على تجربة هذا الرئيس الذي يصنف ضمن أفقر رؤساء العالم وأكثرهم سخاء؛ إذ يتبرع بنحو 90 % من راتبه لصالح العمل الخيري في بلاده، ويعتقد أن ما يبقى له يكفيه للعيش بصورة كريمة، لاسيما أن أبناء شعبه يعيشون بما هو أقل من راتبه المتبقي بعد التبرع.
المسألة ليست استعراضا أو كلاما في الهواء، بل هي فعلُ رئيسٍ يشعر بشعبه، ويعلم جيدا أن الاقتصاد مبني على الثقة والنزاهة والواقع الفعلي لقدرات الدولة. والمثالية في القيادة بالنسبة له تعني المبادرة من طرف الرئيس حتى يدفع الآخرين إلى التطبيق. وبسبب خطه الفعلي في النزاهة ونظافة اليد، انخفض معدل الفساد في أوروغواي بشكل ملموس وفقا لمؤشر منظمة الشفافية العالمية؛ إذ يقع هذا البلد في قائمة الدول الأقل فسادا في أميركا اللاتينية.
لكن، لماذا الابتعاد والوقوف بباب تجارب النزاهة والاستقامة في بلاد بعيدة، وبين ظهرانينا دروس تصلح أن تدرّس؟ ففي وقت مبكر، ووسط صخب الأحداث ونزاهة الزمان آنذاك، تمكن ابن الطفيلة المرحوم محمد عودة القرعان، الذي درس في السلط وأكمل تعليمه في جامعة دمشق العام 1940، من أن يبدأ حياة مهنية وسياسية حافلة بالقيم والنزاهة والأخلاق، حتى لقب بين أقرانه بمحمد الأمين.
وقد عمل في مؤسسات مالية يتوق كثيرون إلى الوصول إليها طمعا في خزائنها وامتيازاتها. إذ كان "قاضي تسوية" في دائرة الأراضي حتى العام 1946. وبعدها بأربع سنوات، عاد إلى العمل بعد استقالته بسبب غياب العدالة في ترقية الموظفين، وكانت له بصمات في دائرة ضريبة الدخل. وبقي في وزارة المالية مديرا لدائرة الجمارك، ثم انتقل إلى مؤسسة الإقراض الزراعي إلى أن أصبح مديرا لها. وربما يكون غريبا أن القرعان رفض الوزارة غير مرة لأنه لا يحب الأضواء، رغم أنه كان سياسيا وطنيا وقوميا بامتياز، وأحد رجالات الحركة الوطنية إلى جانب سليمان النابلسي وسعد جمعة وعلي مسمار وبشارة غصيب وآخرين.
لم يسع إلى نهب المال العام. ورغم ضيق ذات اليد وفقر أحواله المعيشية، فإن يده لم تمتد إلى خزائن الدولة. وكان يبدأ مسلسل استدانة لا ينتهي بمجرد وصوله بالكاد إلى اليوم العشرين من كل شهر. ولم يكن يستخدم سيارة العمل بعد انتهاء الدوام الرسمي، وكان رموز المعارضة الوطنية من أصدقائه النزيهين يتحملون عبء كفالته للحصول على قرض من صندوق الأيتام.
أعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وألجأ إلى جنوب الأردن وحتى أقاصي أميركا اللاتينية، بحثا عن نزاهة غائبة. فموخيكا والقرعان وجهان لعملة واحدة، وبهما تصلح الأوطان ويزدهر عالم المال وقيمه، وبدونهما يمسي الاقتصاد وأرقامه وبالا وهما. ولنا في تاريخنا المعاصر قصص للنزاهة الوطنية يجب أن يتلقفها الجيل الجديد، ويبحث في تفاصيلها الجميلة عن كل ما يسند قوة الدولة واقتصادها.
مشهد اليوم مريب؛ فثمة من ليس سياسيا ويريد أن يشتري بماله ذمم الناس وأصواتهم؛ وثمة من يفعل الأفاعيل للوصول إلى المنصب كي ينهب ويفسد؛ وثمة فئة ثالثة تتصدر سيرتها المهنية ألقاب حكومية رفيعة ولم يكن أصحابها ذوي مال، فأمسوا من أصحاب الملايين بين ليلة وضحاها!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حسن احمد الشوبكي