الثورات العربية التي تستعيد أعلام استقلال بلدانها عن الاستعمار الأوروبي، وتستعملها رايات لها ضد أنظمة الحكم التي كانت أبدلت علم الاستقلال براية جديدة، عقب وثوبها إلى السلطة في انقلابات عسكرية، كما في ليبيا وسورية؛ هذه الثورات إنما تقول ضمنياً إنها تريد إلغاء سنوات حكم تلك الأنظمة الاستبدادية من تاريخ الأوطان، وتريد العودة إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، لتواصل بناء بلدانها من تلك النقطة.
ثمة في هذا السلوك، وفي تأييد الشارع العربي له سواء في بلدان الثورات نفسها أو خارجها، اعتذار جماعي ضمني عن مرحلة تمتد نحو 40 عاماً من تاريخ العرب المعاصر، امتازت باستعمال أسلوب الانقلابات وشعارات القومية والتقدمية، لفرض أنظمة حكم استبدادية تنتهي ليس إلى حكم الفرد، بل إلى حكم القبيلة أو الطائفة، تماماً كما فعل القذافي في ليبيا، والأسد في سورية، وصدام في العراق، وعلي صالح في اليمن، ونظام مبارك، وريث السادات الذي قال عنه المصريون يوماً إنه كان يمشي على خطى عبدالناصر "ولكن بأستيكة" (ممحاة)!
ما يريده هذا السلوك إذن، ليس الاعتذار عن المرحلة التي رُفعت فيها شعارات القومية والاشتراكية والتقدمية، بل عن المرحلة التي استُعملت فيها تلك الشعارات ستاراً لحكم العائلة والقبيلة والطائفة، فكانت "كلام حق يُراد به باطل". ذلك أن مرحلة "الأنظمة القومية"، إن جاز التعبير، بدأت في معظم البلدان العربية بعد قليل فقط من الاستقلال، وعلى أيدي أنظمة وصلت السلطة في انقلابات أيضاً، قادها ضباط شباب متحمسون للتحديث والتحرير، لكنهم تعرضوا تالياً لانقلابات جديدة، نفّذها على الأغلب زملاء لهم لأسباب قالوا إنها "تصحيحية"، مستعملين أسلوب "البيان رقم 1" نفسه، والشعار القومي والتقدمي ذاته، فمكثوا في السلطة عقوداً طويلة، ثم ورّثوها، أو كادوا، لأبنائهم الذين ولدوا وعاشوا مترفين باعتبارهم "أولاد السيد الرئيس".
هكذا، يكتشف العرب اليوم أن في تاريخهم المعاصر عقوداً ضائعة، هي بمثابة "وقت مستقطع"، تعطلت فيه مسيرة التحديث القائمة على أفكار الاستقلال: كالحرية، والعدالة، والوحدة العربية، والتصدي للإمبريالية. أضعنا أربعين عاماً من تاريخنا تحت سياط الاستبداد، فكان أن أُهدرت الثروات العربية في حروب لا طائل من ورائها، كحرب العراق مع إيران، وحروب صدام مع طواحين الهواء، فيما واصلت إسرائيل تمددها، وظفرت باعتراف العرب، وباتفاقيات سلام معهم، في وقت تبددت فيه مشاريع بناء خطط تنموية طويلة المدى، تحدّث طرق إدارة الدولة فضلاً عن تحديث هياكلها، وتطوّر منظومة الثقافة الوطنية لدى الشعوب العربية باتجاه قيم الحرية والتعددية واحترام الاختلاف، والمواطنة والالتزام بالقانون، والتطلع للمستقبل عوضاً عن الماضي وأحلامه وأوهامه.
اكتشفنا ذلك، فاستعاد الليبيون علم الاستقلال ذي الألوان الثلاثة والهلال والنجمة، عوضاً عن راية القذافي الخضراء؛ ويستعيد السوريون علم استقلالهم ذي النجوم الثلاث الحمراء والثلث الأخضر، فهل نتفاءل بأن العرب سيتجاوزون منذ اليوم أخطاء العقود الأربعة الماضية، ويحاولون اللحاق بما فاتهم من التاريخ، وهو كثير؟ تحقيق ذلك رهن بحصر أخطاء تلك العقود الأربعة وتجنّبها، وأولها الخلافات العربية التي ظلت تفرز حروباً باردة بين الأنظمة، أعاقت أي شكل حقيقي من التكامل العربي، بما في ذلك الاقتصادي الذي تُبنى عليه خطط التنمية الشاملة.
ها هو التاريخ يعطينا فرصة ربما تكون أخيرة. لنتذكر ونحن نعترف بإهدارنا أربعين عاماً من "شبابنا"، أين وصلت دول لم تهدر تلك العقود، في أفريقيا وآسيا، وحجم الجهود "المكثّفة" التي علينا أن نبذلها إن أردنا، حقاً، تجاوز كل هذا التأخير.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة سامر خير أحمد جريدة الغد العلوم الاجتماعية