عموما يعرّف التراث، بأنه مجموع ما خلفته قرائح الأقدمين وصفوة الأسلاف من فكر وعلم وفن ونمط عيش وفنون حضارة مما يمكن لجيلها الحالي الإفادة منه، والاستعانة به على حل ما يواجه من المشكلات والتحديات، أو تعريفه بأنه كل ما أفرزه الماضي من إفرازات، ضارة ونافعة، سامة وسليمة، لا يزال لها أثرها الفعال في مسلكنا ومعتقداتنا وأسلوب معيشتنا ونظرتنا إلى الحياة، منها ما يجدر بنا التمسك به وتنميته، ومنها ما ينبغي علينا محاولة استئصاله، أو الحد قدر الإمكان من نطاق سلبياته. فالتراث بهاته التيمات يصبح حياة أقوام.. لغتهم وأفكارهم وعقيدتهم وممارساتهم الحياتية ورؤاهم، إنجازاتهم وأعرافهم من عادات وتقاليد تصنع ما نطلق عليه الموروث. ويأتي الرسم واحد من مجموع الموروثات التي تشكل ملامح التراث، لأنه بات أداة تعبيرية عن العادات والتقاليد والأعراف، عن الإنجازات والأحلام والرؤى، بل حتى عن الجماد الذي شكله الأجداد كأحد المفاصل التي أنتجوها عبر التاريخ.. في خضمّ هذه المقدّمة المختزلة، نحاول في هاته المقاربة البرقية أن ننفذ ونوغل في رصد مآثر أعمال الرسامة العصامية: نادية مليح سراج التي عرضتها مؤخرا برواق الفنون (حضرموت) في مدينة سوسة تحت عنوان (حنين) لعلّنا نقتنص ما يجيب عن أسئلتنا العالقة والمتصلة بالضرورة برؤية هذه الفنانة في تشكيل عناصر خطابها الفني عبر اعتمادها على العادات والتقاليد بشتى تمظهراتها ضمن لوحات غاية في الجمال البصري أفرزتها أنامل الرسامة فأوقدت فينا وهج الذاكرة وأحيت ما خلّدته الدفاتر القديمة من أساليب العيش في المدينة العتيقة والبيت العربي القديم ثمّ إيقاعات اليوميّ في الأزقة والأسواق فكأنّ الصور والرسوم انقلبت وفي لحظة فارقة من زمن الولادة الإبداعية إلى مرآة عاكسة لنبض هذا المعيش إزاء ما دوّنه المؤرخون في كتبهم، وأكثر من هذا الصنيع فقد تشبـّعت الرسـّامة بثقافة الملاحظة والإمعان في حفظ خرافات الجدّة وروايات السابقين لتسرد وبإيقاعها الأنثوي شريطها التشكيلي وتنجلي الولادة لوحات وافرة بعطور الطلل الجميل على الماضي التليد وهي تمني النفس بأن تعايش حداثتها بعطر غامر بعبق التاريخ، ورغم عصاميتها فإن الرسامة مكتملة النضج في تعاملها مع الألوان الزيتية تفقه مليا نواميس التقنية بمختلف تفريعاتها.. أعترف وبملء الثقة التي أفرزتها نادية مليح سراج على بياض رسوماتها، أنّ معرضها (حنين) توّج وباقتدار مشروع مبدعة تدعو للمصالحة مع هوّيتنا وتأصيل كياننا العربي وتقارع الماضي وألقه بضياء ريشتها وهي تغازل وجه المرأة محفوفا بالبهجة ثمّ تضاعف من رغبتنا في استرجاع ما علق بأذهاننا لوحات نستذكر بها ما طفا عند منعطف طفولتنا والصور المتراكمة في أذهاننا وتلك اللحظات التي عايشناها ولم يسعفنا الوقت من تدوينها طي كراساتنا فخاطت نادية مليح سراج بأصابعها المتلألئة بالحلم وعن دراية كافية شريط ذكرياتنا بلا متممّات ركحية أو (رتوشات) من حبر القلم.. كل ما في الأمر أن الفنانة تسـّامقت بعذوبة تناولها للتمفصلات العتيقة وعمق إحاطتها بكنه الأشياء المكوّنة لحلّ الناس وترحالهم مانحة بذلك للأصداء الماضوية جرعة من أكسجين الحياة العصرية ذات الإيقاع المختلف ولكنها صامدة رغم تقلبات الحداثة وأكذوبة العولمة.. فرسوم الفنانة باهته المواصفات باتت لا تعترف بتسارع الحراك وتعدّد الوسائط اللامادية، بل هي تقتلع موقعها قلب الذات الإنسانية وتقبع يافعة في النفس وكأنها جزء لا يتجزأ من ارثنا الخالد لتستقيم الرسوم ولادة شرعية ووتدا عتيدا يحفظ خصوصياتنا المعمارية ويعيد بعث المنجز التاريخي برؤية إبداعية تضفي عليه بهارات من شهد الأصماغ والألوان توهجا استثنائيا ليعزّّز في أفئدتنا الهشة حنينا لتأملاتنا المتقادمة.. ورجع الصدى لليالي الخوالي. الرسامة : نادية مليح سرّاج في أسطر - هي من مواليد 1970 بباريس، درست بكل من مدن صفاقس، سوسة وتونس للتحصل على شهادة اختصاص في علوم التصرف بالمؤسسات. - أم لثلاثة أطفال، اقتحمت العمل المهني بشركة لتصدير الملابس الجاهزة، ثمّ مدير عام لمؤسسة سياحية منذ سنة 2000، وبالتوازي مع مهنتها كانت دوما شغوفة بالفنون التشكيلية (الرسم على كل المحامل..) إلى جانب هوايتها بالموسيقى (أداء وعزفا). - قامت بتنظيم أربع معارض رسم، آخرها برواق الفنون (حضرموت) بسوسة وثلاث حفلات موسيقية من خلال أداء المقامات التونسية البحتة وعشقها لأغاني الفنانة الراحلة: صليحة وشبيلة راشد ثمّ علي الرياحي وآخرون، كما أنه يتملّك الرسامة شغف بتصميم الأزياء التقليدية التونسية وهي تسعى بكل ما أوتي من جهد للتعريف بالتراث التونسي خارج حدود الوطن وهي واعية بأن هذه الرغبة ستجني أكلها بالسوق الأوروبية، هذا وتفكر نادية مليح بلعيد في الأيام القليلة القادمة بإقامة معرض شخصي بمدينة (قرونوبل) (فرنسا) لتصدير الفن التونسي الجميل واقناع السائح الإقبال على هذا المنتوج التقليدي.

المراجع

www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=1802موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث