أمسى مشهدا اعتياديا أن ترى طفلا في السادسة من عمره ضمن قرى منطقة الجولان السوري المحتل، وقد افترش الطريق ليبيع البنزين المهرب، وآخر يبيع في بقالة لم يتبق منها شيء، وثالث ينقل الماء على كتفه من مناطق بعيدة إلى العائلات المحرومة من المياه بسبب قطع قوات النظام السوري لها. ويتضخم المشهد إلى أطفال حقول القمح والحصاد، وأولئك الذي يركبون الدراجات النارية لخدمة التوصيل؛ وكلهم دون سن العاشرة.
الوالد قد يكون معتقلا، أو قضى في إحدى المواجهات المفتوحة، أو أصيب والتزم البيت تبعا لذلك، ليقع عبء تدبير الوضع المعيشي على كاهل طفل في سن الثامنة. والخطورة هنا ليست في تحميل الأطفال تبعات ما يحدث في سورية، بل إن مصادرة حق الطفل في الحياة وتحميله مسؤوليات جساما، سينتقل بالطفولة عموما إلى حالة معقدة يعلوها حرمان ومشكلات نفسية بالغة. والسؤال: كم سيصمد الأطفال وهم يتحملون عبئا اقتصاديا ثقيلا في مناطق قست عليهم، وحولتهم إلى عمالة حقيقية بين يوم وليلة.
لنا أن نتخيل التداعيات التي يفرضها حرمان النسبة الأكبر من أطفال سورية من التعليم لعامين دراسيين. ولذات الفترة حُرموا أيضا من المطاعيم، ومن أبسط شروط الطفولة والحياة والصحة. ويتخلل ذلك مسلسل مرير في طلب اللجوء بحثا عن ملاذات آمنة في داخل سورية ضمن المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، أو في بلدان مجاورة. ومنهم، لطبيعة المواجهات المحتدمة، من فقد أطرافه أو قضى في قصف عشوائي لا يفرق بين مدني وطفل ومسلح أو مقاتل.
فيما تبقى من محلات ميكانيك السيارات وورشات صناعية تقليدية، ترى الأطفال بكثرة يعملون بدون رحمة. ومثلهم آخرون في بيع الخضار، وفي حقول القمح التي تقصف هي أيضا، وفي الشوارع لتصريف العملات. مشهد مفتوح يسرق من الأطفال براءتهم، ويحمّلهم أعباء اقتصادية في ظروف معيشية بالغة التعقيد. وفي أثناء حديثي مع أحدهم (عمره 11 سنة) وهو يعمل على صيانة تراكتور زراعي قديم وصدئ، علا دوي قريب لقذيفة، فقال لي: "إنها راجمة على بعد 3 كيلومترات، لا مشكلة"! أي طفولة تلك، وأي ضياع؟!
والمسألة أكثر خطورة على الأطفال الرضع؛ إذ تسهر الأم على احتضان طفلها ابن الثلاثة أشهر كي لا يسمع صوت القذائف والانفجارات، بعد أن تكون قد وضعت القطن في أذنيه، في محاولات لا تنجح دائما لإنقاذ سمع الطفل. وهناك أطفال كثر فقدوا سمعهم وقدرتهم على النطق بسبب دوي القذائف بالقرب منهم أو في بيوتهم، وذلك عقب تعرضهم لانهيار عصبي أتى على التوازن النفسي للطفل، وكسر إيقاع حياته، وقلبها رأسا على عقب.
الحديث عن عمالة الأطفال في مدن عربية أخرى وتشخيص مخاطرها، يقابله واقع خطير في سورية. فالطفولة هي الخاسر الأكبر؛ إذ فقد الأطفال كل حقوقهم، وهم اليوم يتحملون مسؤوليات تدبير وإعاشة من تبقى من عائلاتهم. وكل هذا من شأنه أن يعبث بجيل كامل؛ فالطفولة في سورية منخرطة في واقع معيشي صعب، يسيطر عليه القتل والتجويع والتشريد. ولا يتحدث الصغار إلا عن مقرات الأمن والقذائف وأنواع الصواريخ، وباقي تفاصيل المواجهة المفتوحة من حولهم. وهم الضحية الأولى لها، بعد أن سرق النظام منهم كل شيء، وجعلهم أهدافا لحربه التي يخوضها ضد الشعب السوري والتي دخلت عامها الثالث.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حسن احمد الشوبكي