يبحث المواطن العربي عن عدالة مفقودة، ليست موجودة إلا في الدساتير وفي خطابات المسؤولين التي لا تنتهي. لكن النزاهة والاستقامة، وقبلهما العدالة، تظل غائبة، لتبقى الاقتصادات العربية أسيرة حالة إنكار لواقع متورم ومحتقن، فيما البون بين من يملك ومن لا يملك كبير وعميق. وفي المقابل، تتكاثر مشاهد التذمر والإحباط والسلبية، بسبب قناعة الناس بأنهم ليسوا سواء أمام القانون. 
في إحدى محطات "المترو" في العاصمة الفرنسية، باريس، يمكن للمرء أن يلحظ بوضوح سر النجاح المجتمعي والاقتصادي، وملامح القوة لدى المواطنين والمهاجرين هناك. فالكل في مقطورة واحدة؛ مدير شركة، وموظف في بنك، ومضيفة طيران، وعامل نظافة، وحتى الوزراء يركبون "مترو" النقل الذي يجوب أحياء باريس بدقة متناهية، على مستويات الوقت والتنظيم وكفاءة الخدمة. والمساواة بين الفرنسيين مفرطة في تلك المقطورات؛ فمن يجد مقعدا يجلس، ولا فرق بين صغير وكبير أو رجل وامرأة. 
إنه مجتمع حقق ثقافة إجماعية، واتفق على أنماط كثيرة. وسر قوته وقوة اقتصاده تكمنان في هذا الاتفاق المهيب الذي يُشعر المرء بأن لا فروقات بين المواطنين؛ فكلهم سواء، ولا يلتفت أحدهم إلى الآخر بازدراء، ولا تغير في سلوكياتهم مستويات الرواتب واختلاف المناصب.
والشعور العام للمجتمع الذي يجلس فيه الوزير إلى جانب عامل نظافة في ذات المقطورة، يدفع في بعض تجلياته إلى الرضى. وهو شعور مفقود أيضاً في المنطقة العربية. ومن السهل أن يكتشف المراقب هذا الرضى من طبيعة السلوك، وصدقية الابتسامات على وجوه العاملين في تقليم الأشجار ببلدية باريس، وموظفي المتاحف والمواقع السياحية في فرنسا وما أكثرها، رغم أن أعداد السياح والزائرين بالآلاف على مدار الساعة. ففي قصر فرساي أو في متحف اللوفر، أو في المتحف العسكري وأمام قبر نابليون، وكذلك الأمر في ساحة برج إيفل، لم أر موظفا واحدا منزعجا من عمله أو متذمرا؛ الكل يعمل ضمن جوقة واحدة، تعزف لحنا واحدا، ويعود بخير اقتصادي على جميع أركان الدولة، بأفرادها أولا، ثم بمؤسساتها الكبيرة. ولا غرو والحالة هذه أن يدخل فرنسا سنويا أكثر من 85 مليون سائح، وليس غريبا أيضاً أن يفوق الناتج القومي الإجمالي لها تريليوني دولار. انه اقتصاد ضخم وعميق، يستند في قوته إلى موارد كبيرة؛ كالطاقة والسياحة والزراعة، مدعوما بقيم المساواة والنزاهة والاستقامة، وحب العمل والحياة.
شاب وفتاة فرنسيان، وليسا مهاجرين من أفريقيا أو من دولة عربية، يعملان معا بجمع النفايات في أحد أحياء باريس. استوقفني المشهد ومستوى الهمة التي يعملان بها، وتبدو مظاهر الرضى حقيقية في حركتهما وفي معالم وجهيهما، في حين تئن في مجتمعاتنا معظم القوى العاملة وغير العاملة، إن لم تكن كلها. وعلى هذا المنوال لن تتقدم اقتصادات أبناؤها لا يحبون عملهم لأسباب كثيرة، منها غياب العدالة، وعدم تحقيق الهدف الأسمى من التنمية والنشاط الاقتصادي، وهو تحسين حياة الأفراد.
وجود شبكات نقل بمستوى ما هو موجود في أوروبا يعني أن الجميع سواء، وواجب الدولة، بقطاعيها العام والخاص، تقديم الخدمات لهم بأفضل حال. والتقاء الجميع في تلك الخدمات، يعني أن الأفراد يشعرون بالمساواة، وأن حقوقهم في العيش الكريم هدف لا مراوغة فيه. وفي مقابل هذه الصورة النموذجية، تتضخم لدينا الفروقات بين طبقة يملك أفرادها بركتي سباحة في المنزل الواحد، وأخرى ينتظر أفرادها دورهم في توزيع المياه للشرب ولا يجدونها! تفكيك هذه الفروقات يصنع اقتصادا أحد أهم شروطه العدالة والنزاهة والمساواة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي