الثابت أن أيا من قادة الدول العربية لا يبتاع القصة الرسمية السورية حول وجود عصابات خارجة عن القانون تقف كسبب رئيس خلف أحداث العنف في سورية، وأن القادة العرب، لذلك، ربما يعتقدون أن وجود فرق تقصي حقائق ميدانية في سورية سيفضح الرواية الرسمية ويخسّرها القليل ممن تبقى من أصدقاء دوليين أو إقليميين. هذا تفكير سياسي مقبول، ونهج دبلوماسي متبع، لكن مشكلته أنه لا يعي درجة عدم الفعالية الهائلة التي تتميز بها مهمات التفتيش وتقصي الحقائق الدولية. وهو أسلوب يقفز عن حقيقة القدرة الهائلة للدول على التلاعب وتحوير فرق التفتيش وتقصي الحقائق. وتتعزز قناعة عدم فعالية تقصي الحقائق في سورية بالتحديد بالنظر إلى السلوك الرسمي السوري الذي بنى القليل من المصداقية السياسية للآن في تعامله مع الأزمة، وبالنظر أيضا إلى محدودية خبرة الجامعة العربية في الاضطلاع بمهمة كالتي هي مقدمة عليها في سورية.
نحاول أن نتخيل كيف سيعمل فريق تقصي الحقائق ميدانيا فلا نتفاءل بنجاحه مطلقا؛ فإن ذهب إلى سجن سيتم إفراغه قبل أن يصل إليه أحد، وإن شاهد مظاهرة فسيرى "شبيحة" أو "عصابات" تقتل الناس وليس جيشا أو أمنا، وهو ما سيعزز رواية السوريين الرسمية وليس العكس. وإن تحدث مع أحد فسيكون معروفا مصيره. لذا فنجاح هذا الفريق سيبقى محدودا، والنتيجة التي ستؤول إليها مهمته ستكون غير حاسمة وغير دقيقة، ولن تتمكن الجامعة العربية من البناء عليها. وربما سنكتشف أن قسما من التحليلات والمعلومات غير دقيق ومشوه ليس لشيء ولكن بسبب تعقيد الاضطلاع بمهام رصد الحقائق الدولية، ما قد يدخلنا في دوامة سياسية من التشكيك والتكذيب المتبادل ستعيدنا إلى المربع الأول.
ثم لنفترض أن فريق الجامعة العربية سينجح ويقنع العالم بتقاريره، فالسؤال يكون عندها عن تداعيات ذلك سياسيا وميدانيا في ضوء واقع إقليمي غير مهيأ لعمل المزيد أو التدخل ميدانيا في سورية، وفي ظل واقع دولي يرفض تحمل عبء التدخل في سورية خارج حدود ضيقة اتسمت إلى الآن بالمساعدة في توحيد المعارضة السورية وتنظيمها، وربما في المستقبل بفرض حظر طيران جوي أو خلق مناطق عازلة تؤوي المنشقين من الجيش. المشكلة إذن ليست فقط في اضمحلال فرص نجاح فريق تقصي الحقائق، بل في عدم جدواه إذا لم تتوافر النية أو الإمكانية لجهد إقليمي ودولي يساعد الثورة السورية من دون أن يخدش وطنيتها، وهذا ليس متوفرا بحسب دلالات اللحظة الراهنة.
ما سبق لا يعني أن التغيير في سورية لن يحدث، بل سيحدث، بدلالة التاريخ القديم والحديث والمنطق الذي يملي أن لا استمرار لنظام يقتل شعبه. لكن عدم التفاؤل بالمنحى الإقليمي الذي ذهب إليه شأن التعامل مع سورية معناه تعاظم القناعة أن لن يحك جلد الثورة السورية غير ظفرها، وأنها في أحسن الأحوال ستحصل على قليل من الدعم من الإقليم والعرب والعالم، ولكن بما لا يصل إلى مستوى توقعات أو طموح الثورة السورية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد