تسللت مفردة "الشجاعة" إلى التداول في الحديث عن قرارات الحكومة الاقتصادية. ويرى كثيرون أن مسار الحكومة في الجباية هو الأكثر اتضاحا منذ بدأت عملها، الأمر الذي لا علاقة له بالشجاعة أو الإقدام. فالمسألة ببساطة هي أن حكومات خلت تسببت في توريط البلاد بنهج اقتصادي استلزم الغرق في مديونيات لا تنتهي، وجاءت الحكومة الحالية لتقول إن لديها الجرأة لتصلح كل ما مضى من جيب المواطن، عبر قرارات عنوانها الوحيد هو الجباية!
وصف السفير الأميركي في عمان ستيوارت جونز، قبل بضعة أيام، لرئيس الوزراء د. عبدالله النسور بأنه "شجاع"، لمجرد أنه يلزم السفارات بدفع فاتورة الكهرباء كاملة، ينطوي على ضرورة يقتضيها السياق بأن يعاد تعريف الشجاعة. فالأصل أن تدفع السفارات المستحقات المطلوبة منها لشركات الخدمات، فلا علاقة لرئيس الوزراء بها.
وبعيدا عن ذلك، فإن د. النسور يكرر دوما مفردة الشجاعة. وهو من قال سابقا: "ليس من الشجاعة أن أتجاهل الوقائع وأعمل مساحا لعواطف الناس، وأنسى قضية الاقتصاد". وقال مخاطبا القيادات الإدارية العليا في الحكومة: "يجب أن نشعر ونتصرف أننا خدم لهؤلاء الناس ولسنا أسيادهم"! وهنا يصبح الحديث عن الشجاعة ضرورة أيضا، بالتساؤل: متى يكون السياسي شجاعا؟ ولماذا؟
في سلوك رجل الدولة، ثمة أمثلة على الشجاعة ضمن المستوى الفردي. فقيام رئيس وزراء سنغافورة، لي هسين لونغ، وأعضاء حكومته، بخفض رواتبهم بنسبة 36 %، يعد شجاعة، رغم أن الحكومة هناك، بجهازها البيروقراطي الصغير والكفؤ، سبب في التنمية وفي إدامتها أيضا. والنمو الصاعد في سنغافورة يسمح بالتوسع في الرواتب، وجذب الخبرات الكفؤة من القطاع الخاص، وإغرائها بالمشاركة في الحكومة. مع ذلك، ذهبت الحكومة إلى خفض رواتب أعضائها بشكل حقيقي لا دعاية فيه.
وفي صلب الحديث عن الشجاعة والاقتصاد، فإن باني نهضة سنغافورة، ورئيس وزرائها للفترة 1959-1992، لي كوان يو، يمثل نموذجا يدرس في هذا المجال للسياسي الشجاع، الذي بنى من وسط الخراب واحدا من أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم، في الوقت الذي كانت فيه بلادنا مستباحة بانقلابات عسكرية لم تقدم إلا مزيدا من الفشل لشعوب المنطقة العربية. وكانت أدوات كوان يو لا تخرج عن احترام القيم، وتعظيم التعليم النوعي، وتقديس النظافة، وزرع حب العمل في نفوس أبناء بلده، ونشر الورود في كل مكان. حتى إنه كان يحث الأسر على الإنجاب عندما يتحقق النمو والازدهار، فيما يعيد تحفيز برامج الحد من النسل في أوقات العسرة المالية للدولة. وحقق بموجب صدقه وشجاعته في الرؤية والتخطيط والتطبيق، إنجازا اقتصاديا لمسه كل السنغافوريين؛ وهو الوصول إلى أعلى المستويات العالمية في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بمبلغ 22 الف دولار، بعد أن كانت 435 دولارا في العام 1960.
يحلو للآسيويين تسمية كوان يو بالشجاع والقائد العظيم. وهو يستحق ذلك؛ فقد تسلم مستعمرة خربة، حولها بالرؤية الثاقبة والتخطيط العلمي المستقل و"القرارات الشجاعة" إلى واحدة من أجمل الدول في العالم، وأسس اقتصادا راسخا مستقلا لا تبعية فيه للغرب أو الشرق، واقتحم حقولا كثيرة مليئة بالألغام السياسية والاجتماعية، وأمسك بزمام التعليم، لتتحقق لشباب سنغافورة القدرة على تحقيق السبق في مجالات عديدة، وبما ينعكس على حياتهم، حتى تحولت شجاعته ورؤيته وأحلامه الى واقع جميل قابل للنمو كل لحظة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حسن احمد الشوبكي