لست ممن يقلقون من أطروحات الوطن البديل؛ ليس فقط لعدم واقعيتها وهرطقتها، بل لقناعتي المطلقة بعدم وجود أردني واحد أو فلسطيني واحد يرغب أو يقبل في أن تكون الأردن فلسطين. وهذه قناعة تتعزز ضمن متابعة نقاش الهوية الوطنية في الأردن، لأنه وبصرف النظر عما سيؤول إليه، تبقى الحقائق السياسية في أن ملايين الفلسطينيين في الداخل والخارج لن يقبلوا بغير فلسطين وطنا لهم، حتى لو أعطيناهم جنان الأرض وما حوت. المسألة كما أراها محسومة في أننا لا نبحث عن أرض –أي أرض- لشعب بلا أرض، وإنما هي مسألة فلسطين الجغرافيا والتاريخ والعروبة والإسلام التي لم ولن يتم التنازل عنها منذ أن فتحها عمر وضم يهودها ومسيحييها العرب لدولة المسلمين.
قبول بعض العرب والمسلمين لإسرائيل، وتوقيعهم لمعاهدات سلام معها، لا يعني بحال من الأحوال التنازل والتفريط بالحق العربي والإسلامي التاريخي في أرض فلسطين، أو الإقرار بالسيادة الحصرية لإسرائيل على تلك الأرض المقدسة. القناعة العربية تقرّ بوجود ديني يهودي في أرض فلسطين في زمن النبيين سليمان وداوود عليهما السلام، وتقر بوجود مجتمعات يهودية عاشت لآلاف السنين في أرض فلسطين بين العرب المسلمين والمسيحيين، ولكن هذا لا يلغي ولا ينتقص من الوجود العربي الإسلامي الضارب بجذوره في تاريخ هذه الأرض المقدسة. وقبول التسوية والتعايش مع إسرائيل كان وما يزال يخضع لهذا المنطق وبديهياته التاريخية، مهما خضعت هذه البديهيات لمحاولة التحريف والتزوير من قبل التطرف الإسرائيلي.
تحوير تاريخ المنطقة والالتفاف على حقائقها يأتي من قبل قلة معزولة تنعت "بالخبل السياسي". لكن الخطورة تكمن في أنها أحيانا تأخذ شكل الأطروحة العلمية التاريخية، وإن كان العلم منها براء. وهي تسعى إلى تقويل قرارات الأمم المتحدة ما لم تقل، بهدف ترسيخ "حق" إسرائيل في كل الأرض المتنازع عليها، بل ورفض مبدأ أنها "أرض متنازع عليها"، والترويج أن الحل لمعضلة الشعب الفلسطيني يكمن في إعلان الأردن دولة لهم، وأن بن غوريون لم يرسّم حدود إسرائيل لأنه يرى كل أرض فلسطين أرضا لإسرائيل وليس لأن العرب آنذاك رفضوا التسوية. كل هذه الترويجات علميا وتاريخيا سفيهة، وتعد فذلكة خارجة عن العقل.
العبث بالتاريخ بهدف تصدير معضلة إسرائيل الوجودية، وخدمة للتطرف الديني الأعمى الذي ترسخه سياسات نتنياهو التدميرية على بلده قبل غيره، يجب التصدي لها من قبل جهات أساسية ثلاث: السلطة الوطنية الفلسطينية من خلال استمرار التأكيد على جغرافيا أرض الدولة الفلسطينية التي لا يمكن قبول أي أرض بديلا عنها؛ والنخب الفلسطينية في الخارج والأردن تحديداً، والتي باتت ملزمة تاريخيا بالتشديد على حقها في العودة، وأن تبلور تصورا واضحا حول عدم التعارض ما بين اكتسابها لحقوقها السياسية في الدول المضيفة لها وحقها في العودة والتعويض؛ والنخب المثقفة الإسرائيلية المعنية أيضا بالتأكيد على ضرورة المشاركة السياسية في الأرض، لأن الإقصاء والإحلال سيجعلان من الصراع الدائر الآن أقرب للحروب الصليبية التي هدفت إلى طرد أهل الارض منها، وكانت نتيجتها صراعا دينيا دمويا تاريخيا انتصر فيه أهل الأرض ومحيطهم الحيوي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد