بات مشهدا مألوفا رؤية أحدهم يحمل خرطوم المياه مهدرا ثروة لغسيل سيارة أمام بيته، ناهيك عن المخاطر البيئية والصحية المتمثلة في تجميع المياه في الشوارع. يقابل ذلك ربة منزل تفتح الصنبور بحده الأعلى لتنظيف بضعة أطباق، ومثلهما مزارع تضيع نصف المياه المسحوبة لديه لسقي المزروعات هباء، ورابع لا يلتفت إلى أن "سيفون" الحمام بمنزله يأتي على أكثر من ربع حصة المياه المخصصة للعائلة. هذا فيما آخرون مضوا منذ عقود في سرقة ما في جوف أراضينا، عبر حفر آبار، في غفلة من القانون وحماته.
هذا الاسترخاء والهدر والسرقة، تتم جميعاً في ظل شبكات مهترئة، وعجز مائي مرعب، زادت الاحتياجات فيه على 40 % من الموارد المتاحة. وتلك المظاهر أو الجرائم بحق المياه ليست محصورة في الأردن، بل تتعداها إلى كل الدول العربية؛ إذ كشف تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قبل أيام، في البحرين، عن أن الهدر والتوسع في استهلاك المياه، واستمرار العجوزات عربيا، سيشكل تهديدا كبيرا في الفترة المقبلة، وقد تكون حروب العرب المستقبلية بعناوين مائية صرفة. هذا فضلا عن أن حوالي 18 % من سكان الدول العربية حاليا محرومون من المياه النظيفة، ونحو 24 % أيضا محرومون من أنظمة الصرف الصحي.
أرقام ومؤشرات العجز والهدر المائي، عربيا وأردنيا، كثيرة، وتضج بها المؤتمرات والندوات. لكن سؤال التنمية والاقتصاد مفقود هنا، ويبدو أنه لا يعني طبقة رجال الأعمال في العالم العربي والأردن. فأين القطاع الخاص من الأفكار التي يطرحها شباب عرب وأردنيون، قدموا براءات اختراع تساعد في ترشيد استخدام المياه، وتقلل بنسب كبيرة من الهدر المستمر؟ فثمة من ابتكر أجهزة حساسة تمنع تسرب المياه من "السيفونات" التي تهدر أكثر من
26 % من مياه المنطقة العربية، وفقا لدراسات عربية نشرت قبل ثلاث سنوات. لكن تلك الاختراعات لم تلق قطاعا خاصا مبادرا أو معنيا بمحاولة التغلب على التهديدات التي تؤثر في تقدمه، وتشكل خطرا محدقا بالدول التي ينشط فيها.
وفي بلد يشكل عجز المياه تهديده الأول، لماذا لا تطبق مثل هذه الاختراعات في المصانع، بمبادرات مسؤولة ومصلحية من القطاع الخاص، حتى تدخل بيوتنا ونوقف الهدر؟
ما جدوى الحملات التي تطلقها مؤسسات الدولة المائية من وقت لآخر، فيما المستهلك مسترخ، والنخب الاقتصادية غائبة أو شريكة في بعض الأحيان في جرائم التعدي على المياه؟ وهل ستقوى الحكومة الحالية أو سواها على تطبيق القانون، وإنقاذ الاقتصاد من خسائر بملايين الدنانير في مواجهة قوى متنفذة تعتقد أنها فوق القانون والدولة؟
الحكومة منفردة لن تستطيع فعل الكثير في مواجهة كل تلك الممارسات. والتحذيرات التي أطلقها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشأن أوضاعنا وأوضاع العرب المائية، تدعو القطاعين العام والخاص إلى تخليق وعي مجتمعي واقتصادي جديد. وفي تقديري، فإن هذا التهديد الماثل أمامنا يستوجب تعليم طلبتنا في مدارسهم وجامعاتهم الكثير عن أزماتنا المائية، لاسيما في جوانب السلوك الاستهلاكي، وجرائم الاعتداء على المياه، وصولا إلى البحث عن بدائل تقدم إجابات عملية عن أسئلة هذا الملف الثقيل.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حسن احمد الشوبكي