هدنة مصرية أنهت العدوان على غزة. وهذا أمر يستوجب التقدير للمصريين، ولكل من ساهم دبلوماسيا وسياسيا في الوصول إلى هذه الهدنة؛ فالحرب التي شهدناها روّعت الأبرياء وقتلت الكثيرين، وكانت نقطة سوداء زادت من تعقيد جهود التسوية المرجوة التي تهدف استراتيجيا إلى إنهاء الصراع، وإعادة الحقوق الفلسطينية، وخلق أجواء سلام تعيش في ظلها شعوب المنطقة بأمن واستقرار، خاصة تلك التي ما تزال ترزح تحت وطأة الاحتلال أو المتأثرة بتداعيات الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر.
البعد السياسي للحرب على غزة حمل معاني متعددة، يجدر التوقف عندها. فقد شكلت الحرب محكا حقيقيا للموقف المصري ورؤيته المستقبلية لدوره في الصراع العربي-الإسرائيلي. وقد ظهر من خلال سلوك مصر أنها مستمرة في دور الوساطة، وضمن نفس الأطر التي كانت تتم في السابق. وهذا أمر إيجابي لأنه، من جهة، يديم الزخم والثقل المصريين في ملف الصراع العربي-الإسرائيلي، ويبعث من جهة أخرى برسائل إيجابية إلى العالم والإقليم بالالتزام الاستراتيجي المصري بمنهج التسوية السلمية للصراع، الأمر الذي كان قد ثار حوله الكثير من النقاش بعيد الربيع المصري.
مصر سحبت سفيرها من إسرائيل. وفي هذا مؤشر على شيء من التغيير المتوقع من قبل المصريين ضمن قيادتهم السياسية الإسلامية الحالية، ولكنه لا يدلل على تغيير استراتيجي ينحى باتجاه التصادمية، وبما قد يدخل الصراع العربي-الإسرائيلي في دوامة المواجهات التي عشناها في محطات تاريخية سابقة.
موقف السلطة الفلسطينية، في المقابل، كان مُحرجا؛ لأن ما حدث ذكّرها والعالم بأنها لا تسيطر على القرار السياسي والميداني في غزة، فبدت قدرتها على التأثير أو تهدئة الأوضاع في حدودها الدنيا. وثمة شعور واضح لدى قيادة السلطة بأن الأزمة أثرت بشكل كبير على حضورها الدولي وقدرتها على الدفع باتجاه انتزاع اعتراف بدولة غير عضو في الأمم المتحدة.
أما حركة حماس، فموقفها السياسي هو الأقل وضوحا. فالحركة ملتزمة بالهدنة عمليا، ولكنها ربما اضطرت إلى خرقها بسبب الزاوية التي حشرت فيها في ضوء استمرار إسرائيل بعمليات الاغتيال لقيادات شعبية في غزة. وهي في الوقت ذاته مقبلة على انتخابات داخلية، سيكون لأي تقاعس في المقاومة تأثير كبير عليها. لذلك، تبدو "حماس" مستفيدة سياسيا رغم خسارتها الميدانية، خاصة بعد أن ظهرت بمظهر المستقل سياسيا، وغير المنصاع للشروط الإسرائيلية. على أن سلوك الحركة يستمر في ترسيخ القناعة بضرورة التعامل مع الانقسام الفلسطيني كأمر واقع؛ ولنا أن نتصور الضرر الكبير الذي يحدثه ذلك على المشروع الوطني الفلسطيني.
مرة أخرى، في أزمة أخرى، يذهب ضحايا من الأبرياء، ويظهر كثير من الدول بمظهر العاجز عن فعل أي شيء، ما يجعلنا جميعا نتذكر مسؤولياتنا التاريخية بضرورة أن لا يتشتت انتباهنا عن القضية المركزية والأم التي أدى استمرارها إلى تفشي كثير من مصائب الإقليم، وخلق حالة من اليأس السياسي المزمن الذي رفع تكلفة الاستقرار، وجعل الدول منشغلة بكل القضايا إلا تنمية شعوبها وتحسين مستقبلهم الذي يستمر في احتلال ذيل أولويات الدول، للأسف.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد