انتظرنا بشغف الورقة الملكية النقاشية الأولى، للتعرف على تفاصيل التفكير الملكي بشأن الديمقراطية والإصلاح السياسي ومستقبلهما في الأردن. ولأن المبادرة إلى طرح أوراق نقاشية للتداول العام هي أسلوب جديد وتفكير "خارج الصندوق"، فقد زاد ذلك من درجة الحماس والتشوق لمطالعة فحوى هذه الأوراق، واستخدامها في نقاشاتنا العامة بأسلوب تنويري يليق بنا كأردنيين.
يتساءل المواطنون عن الهدف من طرح هذه الأوراق وبهذا الأسلوب، في ردة فعل متوقعة على هذا التغير النوعي في الطرح والتخاطب الملكي مع المواطنين والنخبة السياسية والفكرية. وهذا التساؤل بحد ذاته يؤشر على النجاح في الاستحواذ على الانتباه الفكري، ولفت النظر إلى أحد أهم المواضيع المتداولة وطنيا، والتي تم التعبير عنها بمصطلحات الإصلاح والديمقراطية والانتخابات وقوانينها، والاجماع الوطني والتوافق أو التفرد بصناعة القرار، وغيرها من المفاهيم التي ازدحمت بها صحافتنا ونقاشاتنا وتفكيرنا.
بسبب زخم ما تحدثنا به بشأن الإصلاح والديمقراطية في الفترة الماضية، نجدنا كمجتمع وقد تشتت انتباهنا بسبب حالة اللاوضوح في هضم وتأطير برنامج إصلاحنا السياسي، وأهدافه الاستراتيجية والآنية المرجوة. ومن وحي هذه الصورة، تأتي الإضافة النوعية لطرح هذه الأوراق، في كونها تسهم في تأطير الفهم الجمعي العام لثوابت وجوهر العملية الإصلاحية السياسية التي نعكف على صياغتها، لأن من شأن ذلك، أولا، إراحة من يخافون من القادم أو من التغيير، بحكم أن الأوراق الملكية تضع الإصلاح ضمن أطره الوطنية الآمنة والمؤملة. وثانيا، لأن النقاش شابه التشتيت والنكوص، وبات بحاجة إلى دفعة إيجابية تحدد بوصلة اتجاهه. بهذا المعنى، نفهم الفائدة السياسية والمنهجية للأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك.
أما على صعيد المضمون الذي تضمنته الورقة النقاشية الأولى، فإن الأمر لا يقل أهمية وعمقا. إذ انطوت الورقة على تفنيد حصيف لمعنى الديمقراطية والإصلاح السياسي كفلسفة إنسانية راسخة. وتضمن ذلك شرحا لجوهر الديمقراطية ومعناها كما يجدر فهمه. فالديمقراطية كما يراها جلالة الملك، ويطرح على المجتمع رؤيتها، تقبل الآخر ولا تقصيه، وتحترم التباين، لأن في هذا عدل ومساواة وتسامح تسعى إليها المجتمعات، وهي أسلوب حكم جمعي يساعد المجتمعات على توضيح من الذين سيحصلون على المكاسب أيّا كانت، ولماذا، وبأي طريقة وأسلوب؟ 
الديمقراطية، كما يراها جلالة الملك، جامعة لا مفرقة. والاختلاف في الرأي مشروع، لكنه لا يعني بأي حال إفسادا للود ولا مدعاة للفرقى والتشتت. الديمقراطية هي أسلوب عمل المجتمعات المتحضرة، وطريقة حكمها لنفسها؛ فمن خلالها يشعر المواطنون أنهم سواسية، وأن حكمهم منهم ولهم، فلا طارئ عليهم ولا متحكم بهم. وهذا هو جوهر الشرعية وسياجها المنيع. 
الورقة حملت كل هذه المعاني القيمية والأخلاقية السامية التي تليق بالأردن وتاريخه وحضارته، وبإنسانه الذي يشار له بالاحترام والتقدير والمصداقية والنبل من قبل أعدائه (على قلتهم) قبل أصدقائه.
نفخر كأردنيين بقيادة تبادر إلى نقاش الديمقراطية مع المواطن في إقليم تُحرّم أو تُجرّم فيه هذه التداولات أو يُقتل اتباعها. وهي دعوة لنا جميعا كي نعود إلى جوهر الديمقراطية التي نحن مقبلون عليها، وأن نقبل تنوعنا وتبايننا ونعززه، لأن في هذا إثراء لنا ولمستقبلنا؛ وأن نبتعد عن التراشق والتخندق ورفض الآخر، لأن هذا ليس من الديمقراطية في شيء، ولا ما يجب أن نرضى أن يكون عليه مستقبل بلدنا وأولادنا

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د. محمد حسين   جريدة الغد