أخيرا وبعد طول هلع ورجاء ، وبعد خريف ناشف كعروقنا ، عطرت رائحة الأرض أنفاسنا وهي تشرب من ماء السماء ، رائحة لا مثيل لها ، فهي مزيج ساحر من الخصب الأنثوي وعبير القهوة المختلط بضباب كعك العيد ، في صباح باكر مشبع بالنعاس ، وشهقات أول نظرة ، واضطرابات أول دقة قلب ، ورائحة قرفة لم تزل على النار ، ستُراق احتفاء بصرخة المولود الأولى ، إنها إيذان بمولد دهشة ، وارتعاشة بتلات وبراعم لم تزل في أكنتها تتمطى وتتهيأ للميلاد،.

الشتوة الأولى هذا العام ، لها طعم مختلف عن اي طعم سبق ، شتوة متأخرة جدا عن موعدها ، لكأن الأرض عاشقة ملهوفة تركها حبيبها منتظرة على قارعة الدهر ، تعد الأشهر العجاف ، بعد عطش مالح ، ليأتي اللقاء أخيرا مفعما بوعد الإرتواء ، وسقي العطاش ، وإدرار الضرع وإنبات الزرع،.

أخيرا افتر ثغر السماء عن بسمة كستنائية استثنائية ، بسمة اختزلت عطشا معتقا في خوابي القلوب المتحرقة لهبا لدفء الماء وبلل الشوارع ، بسمة تجمعت فيها قطرات حلمنا بها وتلألأت في الخاطر: أرغفة خبز ساخنة وشموسا وفلوسا أيضا ، وها هي تنهمر في جيوبنا وقلوبنا نبضا يدق بإيقاعات القطرات العاشقة ، كما تنبض قلوب العذارى ، والمنتظرين ، على الشبابيك ، طلة الأحبة،.

أخيرا.. تحسن الطقس كما نفهم هذا التحسن ، نحن أبناء الأرض وعشاقها ، لا كما يفهمه بعض كتبة النشرات الجوية ، وقرائها المستدفئين بسخونة الغرف المعقمة واستديوهات التلفزة المكيفة ، تحسن الطقس ، وتلبدت سماؤنا بالغيوم ، وجرت المياه في أقنية القلوب المتيبسة ، فتهللت أسارير أطفالنا وشيوخنا ، وقالوا: إذن زال غضب السماء ، ولو جزئيا ، واغرورقت عيونها بالقطر ، ونزلت دموع فرحها ، أو هكذا نأمل على الأقل ، وحتى لو بكت حزنا فهذا أفضل من احتباس الدمع مع وفرة الأحزان،.

تحسن الطقس متأخرا جدا هذا العام في الأردن ، وجال عشاق المطر في الشوارع ، يستقبلون البلل بشوق ووله ، يملأون قلوبهم بأنفاس مشبعة برذاذ الحب ، وشهوة لقاء الماء بالتراب ، رائحة الشتوة الأولى ، التي تنافس في شهوانيتها وغوايتها أذكى وأزكى ما أبدعته أيدي صانعي العطور الباريسية،.

بسمة السماء أو دمعتها ، لا فرق ، ألا ثَم دمع غير دمع الحزن؟ ألا ندعو دموعنا - تفاؤلا وتيمنا - أحيانا بدموع الفرح.. وما هي كذلك؟ لتبك السماء إذن بغزارة ، سواء أبَكت علينا أم من أجلنا ، فرحا أو ترحا سيان ، فالبكاء خير ونماء ، ففيه فرج وتفريغ للشحنات ، شحنات قهر مخمر في قلوب المقهورين والمغلوبين على أمرهم ، وجلاء لقلوب المحزونين على ما يجدون من هم وغم مقيم ، أنى نظروا وحيثما اتجهوا ، في الأخبار وفي الواقع ، وفي صفحات الماضي التليد،.

تحسن الطقس ، فليكُف كتبة النشرات الجوية عن قهرنا واستفزازنا ، وليتوقفوا عن تحذيرنا كلما هبت رياح المطر وتدثرت سماؤنا بالغيوم الحبلى بالخير ، من "سوء الأحوال الجوية ،"فهذا السوء هو ما ننتظر ، والسوء السوء عندما تنحبس دموع السماء ، ويجف ضرع الأرض،.

أخيرا تحسنت الأحوال الجوية ، وتحول جفاف الرياح الناشفة إلى لثمات حانية مبللة بالحب والشوق المخبأ للنماء والبراعم الغضة ، التي تنتظر إطلالة الربيع على أحر من التراب،.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  حلمي الأسمر   جريدة الدستور