ورقة ثانية يقدمها جلالة الملك كرؤية للتطور الديمقراطي، يريد منها إثراء النقاش الوطني حول الإصلاح السياسي. وهي اجتهاد كما يقول جلالة الملك، في تواضع ملكي معهود، شكّل ميزة للحكم الهاشمي منذ علي كرم الله وجهه؛ حكم اتسم بالسير مع، وليس قبل أو بعد، أهل الرأي والعقد في المجتمع، والاستماع لمشورتهم، وتقديم آراء الحاكم على أنها اجتهادات.
الملك في الورقة الثانية يناقش ما عرف في علم السياسة بالإطار البنيوي للأنظمة السياسية، التي، كما يشير محقا جلالته، تتباين بتباين الشعوب وتجاربها. فنرى الولايات المتحدة وقد طورت نظاما رئاسيا يفصل بين السلطات، على النقيض من البرلماني البريطاني الدامج بينها، والفرنسي المختلط الذي يجمع بين النظامين. وما بين هذه النماذج تتمايز كافة أنظمة العالم السياسية، والتي أبعدها بنيويا عن المألوف النظام الياباني، لكنه مع ذلك يحقق شروط الديمقراطية.
وبنية الأنظمة السياسية تختلف عن فحوى الديمقراطية كقيمة؛ فالأولى كبصمة الإصبع تتباين بين الدول. أما الديمقراطية فعابرة للثقافات والدول، وقيمة متجذرة في الحضارات العالمية، بما فيها الحضارة الإسلامية.
جلالة الملك يؤكد على الديمقراطية كقيمة في مطلع ورقته الثانية، ومن ثم يطرح اجتهاده حول التفاصيل: اختيار رئيس الوزراء سيكون بالتشاور مع الكتلة الأكبر أو الكتل كلها. ففي السابق، كنّا نختار رئيس الوزراء بناء على قراءة او استقراء لقدرته في الحصول على الثقة، أما الآن فسيتم اختياره بالتشاور المباشر الذي سيتضمن بالضرورة تداولا للأسماء، وهو ما لم يكن سابقا.
لم يتحدث الملك في الورقة عن "إلزامية" المشاورات. ولكن إذا ما طرحت الكتلة الأكبر اسما ليكون رئيسا للوزراء، فالأرجح أن ذلك سيحظى بموافقة جلالة الملك. وإذا ما كان هناك تحفظ على ذلك الشخص الذي رشحته الكتلة، فإما أن يتم نقاش وتداول سياسيان وازنان بشأن ذلك، أو يُترك الأمر للبرلمان ليقرر. "إلزامية المشاورات" لم ترد في ورقة جلالة الملك، ولكنها مضمنة وبين السطور.
وهناك ثلاثة متطلبات لمرحلة العبور الديمقراطي الآمن، كما يرى الملك: جهاز حكومي مهني وحيادي، وأحزاب قوية فاعلة وبرامجية ومستقطبة، وتغيير النظام الداخلي لمجلس النواب ليسمح بمأسسة العمل الحزبي والكتلوي، ويعطي قوة للمعارضة السياسية. وهي متطلبات مهمة واستراتيجية للاستحقاق الديمقراطي.
فالحكومات البرلمانية في هذه المرحلة المبكرة قد تنحاز لمصالحها وقواعدها إن لم تجد جهازا حكوميا مهنيا يوقفها؛ وديمقراطية بدون أحزاب ستكون مشوهة وغير فاعلة؛ وعدم مأسسة العمل البرلماني من خلال تعديل النظام الداخلي، من شأنه أن يعزز الفردية لا الحزبية البرلمانية. والمشكلة، بصراحة باتت مطلوبة، أن المتطلبين الأخيرين كانا دائما محط تعطيل من قبل العديد من أجهزة الدولة المختلفة في مواقع صنع القرار المتوسطة والدنيا، ما خلق تباينا تزداد ملاحظته ما بين رؤية الدولة الاستراتيجية العليا، وما تقدم على تطبيقه دوائر الدولة التنفيذية الأخرى. الشعور العام والمقلق هو أن الأحزاب تُكافَح، وأن نظام مجلس النواب الداخلي لا يراد له أن يعدل حتى لو كانت رؤية الدولة العليا والاستراتيجية تريد ذلك.
المطلوب، إذن، ومن أجل إنصاف الرؤية الملكية الواضحة والمتقدمة، وضع آلية تؤكد تحقيقها؛ فعدم حدوث ذلك مضر بالدولة وصدقية خطابها الرسمي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد