توجه الدولة في الإصلاح السياسي، كما ظهر في خطبة العرش، يعول كثيرا على الكتل النيابية واستقرارها كجزء أصيل من العمل البرلماني، ما يضع مسؤولية تاريخية على مجلس النواب وقياداته. وحراك تشكيل الكتل النيابية، إلى الآن، تجاوز التوقعات؛ فأظهر معظم النواب من خلاله أداء متميزا، ووعيا انتهى إلى تشكيل عدد محدد وبأحجام مقبولة من الكتل النيابية المختلفة.
للوهلة الأولى، يظهر أننا غادرنا مربع الفردية التي ميزت برلماناتنا، وأننا بالفعل أمام مشهد نيابي مختلف، تأتى بسبب إدراك النواب أهمية التكتل إن أرادوا التغيير والتأثير. لكن يجب أن نعي أن تشكيل الكتل الناجح للآن لم يتم اختباره بشكل حقيقي بعد؛ فاستدامة هذه الكتل والإبقاء عليها سيكون أصعب بكثير من تشكيلها، وهي تواجه تحديات ذاتية داخلية وأخرى ائتلافية.
استدامة الكتل وتماسكها، واستقرار تحالفاتها البينية، أمر مفصلي في قدرة البرلمان على التغيير والتأثير. وسيكون لتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب أثر كبير في مأسسة ذلك. لكن هذا وحده غير كاف، فالأهم هو اعتماد آليات اتخاذ قرار داخل الكتل نفسها تتيح لها الديمومة والتماسك.
الاقتراع كوسيلة اتخاذ قرار داخل الكتل يشكل طريقا سليمة وديمقراطية للتوافق على القرارات، رغم التوقعات بأن ذلك لن يمنع الأعضاء من ترك كتلهم إن لم تعجبهم قراراتها، فالخلفية غير المتجانسة سياسيا لأعضاء الكتل ستجعل من توافقهم أمرا صعبا، حتى وإن تم بالتصويت. وهذا بدوره يفتح الباب على احتمالات متعددة بانهيار الكتل أو تذبذب أحجامها، وقد نكون أمام ديناميكية مثيرة تتفاعل داخل الكتلة الواحدة عبر مجموعات تتأطر لتوجه الكتلة ضمن قرارات ترتئيها.
هذا على صعيد تماسك الكتل ذاتيا، أما عن علاقة الكتل البينية مع بعضها، فالقضية يجب أن تكون أكثر يسرا. وفي تجارب المجتمعات الأخرى أمثلة يمكن تدارسها، وهي بالمحصلة تشير إلى أنه لا يجب أن يكون من الصعب أن تتفق ثلاث كتل أو حتى أكثر على توزيع مواقع المسؤولية التنفيذية والتشريعية، كما أشارت إلى ذلك خطبة العرش. فبين مواقع رئيس مجلس النواب، ونوابه ومساعديه، ورئيس الحكومة ونوابه والوزراء، يجب أن تحصل الكتل المؤتلفة على عدد من المواقع بما يتناسب مع حجمها في الائتلاف المانح للثقة؛ فالكتلة الأكبر منها رئيس الوزراء، والأقل منها لها موقع رئيس مجلس النواب، والكتلة الثالثة حجما تحصل على موقعي النائب الأول لكل من رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة. وهذا اقتراح من اقتراحات عديدة يمكن أن تشكل مخرجا مقبولا للكتل المؤتلفة لكي تتوافق.
القيمة السياسية المضافة لهذا التداول بين الكتل على صعوبته، أنه يحتم جودة الاختيارات التي ستطرحها الكتل، ليس فقط لأن الأشخاص المختارين والمرشحين سيكونون محل نقاش داخل الكتلة الواحدة، بل لأنهم سيخضعون أيضا لنقاش الكتل الشريكة، ومراقبة الكتل المنافسة التي ستحاول كل جهدها الإتيان بترشيحات أفضل وأجود؛ وهذه تماما عبقرية الديمقراطية: التنافس الإيجابي للأفضل.
كل ما يجري من حراك نيابي سمة من سمات الديمقراطية ويبعث على الفخر، وهو مختلف نوعيا عما كان يحدث في السابق، والكاسب الأول منه هو المجتمع والدولة التي لم تستجب فقط لمطلب الإصلاح السياسي بكفاية ومصداقية، بل أخرجت نفسها أيضا من موقع الملام الدائم على القرارات والأشخاص الذين يتم اختيارهم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد