فصل جديد ومهم من تاريخنا السياسي الحديث يُكتب من خلال مداولات رئيس الوزراء المكلف، د. عبدالله النسور، مع الكتل النيابية، بعد فصل آخر مهم أيضا تشاور فيه النواب وكتلهم مع رئيس الديوان الملكي، د. فايز الطراونة، بهدف ترشيح اسم رئيس الوزراء المقبل، الأمر الذي تم بمهنية وبدون أي مواربة.
الهدف من مشاورات الترشيح والتشكيل كان وما يزال هو الانتهاء إلى حكومة برلمانية على الطريقة الأردنية، وبما يتناسب مع بنيتنا السياسية. وأن يكتسب مشروعنا الإصلاحي مصداقية من حيث فعاليته وكفايته، ما من شأنه احتواء الخطاب السياسي الأسود الذي امتهن التشكيك والمخالفة، والذي ينظر إلى كل ما يجري على أنه "مسرحية"! في تسفيه معيب وخطير، يعكس حالة الهبوط وعدم قدرة المعارضة على تجاوز مربع الرفض والانتقاص الذي استمرأت الجلوس فيه.
مداولات تشكيل الحكومة حديثة على المشهد السياسي الأردني، كما كانت مداولات ترشيح رئيس الوزراء، وقيمتها الكبرى في أنها تؤسس لتقاليد سياسية سيبنى عليها مستقبلا. ففي وضع برلماني مثالي، كانت مداولات التشكيل ستتمثل في إعطاء الكتل النيابية مقاعد وزارية تتناسب مع حجمها النيابي وأصواتها إبان الثقة. أما وأن ذلك غير متاح، لأسباب ترتبط بطبيعة ودرجة ثبات الكتل النيابية، ولأسباب ترتبط بحق الرئيس في فريق ينسجم معه إذا ما كان سيحاسب على حجم الإنجاز المؤمل منه، فيتوقع لهذه الأسباب أن مشاورات التشكيل ستؤثر بقدر أكبر في خطة العمل الحكومية المقبلة والسياسات المستقبلية، وليس على تركيبة الفريق الحكومي.
التغيير في تركيبة الحكومة سيكون مطلوبا برلمانيا، ولكن حدود ذلك لا بد أن تترك لتقدير الرئيس. فنقاش الشخوص برمته سيكون نسبيا وغير لائق، لأن من سيرى في البعض كفاءة، سيرى غيره العكس. لذلك، فالتعديل على الفريق الوزاري سيتأثر بشكل أساسي بالأجندة والسياسات المستقبلية التي ستتطلب، بالضرورة، فريقا يتمتع بطاقات وأفكار خلاقة، وقدرة أكبر على شرح السياسات والإتيان بالجديد من خارج الصندوق، خاصة إذا ما أريد للسياسات والتوجهات المقبلة ومنفذيها، وخطاب الحكومة السياسي، أن تستعيد الثقة بسياسات الدولة، وهو الهم الاستراتيجي الأعظم للحكومة المقبلة، كما صرح الرئيس المكلف محقا.
الرئيس النسور يعرف من هم أعضاء الفريق القادرون على ذلك، ومن سيكونون عبئا عليه وعلى بلدهم ومليكهم، وإن ظهروا بعكس ذلك. وهو يمتلك فرصة تاريخية بإعلاء أهمية المكون السياسي لفريقه، بدون إغفال بعد الكفاءة الفنية التكنوقراطية، خاصة بعد أن "أمّن" حلقة الثقة الأولى لحكومته من قبل مؤسسات الدولة المختلفة، ومن قبل القوى السياسية التقليدية المؤثرة، وهو الآن يقلع نحو الحلقة الأخرى المتمثلة في مجلس النواب؛ فإن نجح في ذلك سيكون في وضع مثالي لإحداث تغيير تاريخي.
مرحلة ما بعد التشكيل هي التحدي الحقيقي الذي سيكون على الحكومة التعاطي معه؛ فثمة همٌ اقتصادي مُلح، يحتاج إلى ثورة بيضاء تقترب مما حدث في سنغافورة وتركيا. وثمة هم آخر سياسي إداري، يتمثل في إعادة الاعتبار لقيم الدولة ومنظومتها الإدارية التي استبيحت أنّى استباحة. والرئيس مدعو، وهو قادر على استعادة ثقافة الزهد والاستقامة التي يعي أكثر من غيره أهمية إحيائها.
كل هذا الحمل ينتظر الحكومة. ولهذا، فلا بد من فريق وسياسات فائقة المواصفات، ومقنعة للنواب والرأي العام، ومن خارج الصندوق!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. محمد حسين جريدة الغد